وإذا طلبا الغلبة اقتتلا لأن فيهما غلبتين وكل واحد من الخصمين يطلب أن يجذب صاحبه إلى الغلبة التي فيه« ص192».
وأفلاطون إن كان قائل ما سبق أو لم يكن فإن قوله مفيد جداً للنظر فيما يجري في عالمنا العربي ممايطلق عليه «حوار» وماهو بالحوار، سواء كان حواراً يجري على شاشة التلفزيون ، أم حواراً يجري على صفحات الجرائد والمجلات ، أم حواراً شفاهياً يقوم في الجلسات الخاصة.
فليس مطلوب مايجري الوصول إلى الحق، بل الانتصار على الخصم . وهذا ماسماه أفلاطون مطلب الغلبة.
في مطلب الغلبة هناك نفي متبادل بين المتناظرين يصل حد النفي المطلق .
فكل متناظر قد جاء بأسلحة الإجهاز على الآخر.
وقرر مسبقاً أن ينال من خصمه مقتلاً.
ويبدأ الشجار ويعلو الغبار والصياح يصم الآذان، والكلمات على الصفحات تصل حد الشتائم ، فلا تدري ألهولاء عقول تفكر أم أصوات تجعجع .
من حق المتناظرين أن يدافعوا عن أفكارهم بوصفها منتمية إلى الحقيقة ، لكن ليس من حقهم أن يتقاتلوا أمام الجمهور الذي يريد بصيصاً من الحقيقة.
إن إشاعة ثقافة الشجار والبحث عن الغلبة أمر مضر جداً للثقافة الشعبية.
فإذا اعتاد العامة على رؤية أهل الثقافة في عراك وشجار على شاشات التلفزة فإنهم ولاشك سيتأثرون بشكل عاصف بهذه الطريقة في التعبير عن الاختلاف ، بل هم أولى من النخبة بهذا الطقس المشين.
فالشتائم بين شخصين في العلن تقضي شيئاً فشيئاً على حاجز الحياء المطلوب للاحترام المتبادل، وتسمح لحالة تبادل الشتائم أن تغدو أمراً مألوفاً غير قابل للاستنكار.
ومن اللافت للنظر أن الشجار الذي مطلوبه الغلبة يتم - في الغالب - بين المتخاصمين في السياسة.
وهو أمر لايدعو إلى الدهشة ، لأن عالم السياسة في بلادنا مازال عالم الصراع المطلق بين المصالح والمعبرين عن هذه المصالح ، عالم التخندق في الحد الأقصى . عالم النفي المتبادل.
وقائل يقول: ماذا تطلب من شخص في المعارضة هارب إلى بلاد الغرب يحاور آخر ممثلاً للسلطة التي حملته على الهروب؟
أطلب منه أن يبقى معارضاً ويقدم أفكاره بكل قوة وهدوء ومنطق ، كما أطلب من ممثل السلطان أن يدافع عن السلطان بالطريقة نفسها وإن كانت الوسيلة ستعوزه في ذلك.
أما صراع الديكة إذا ما صار صورة لصراع النخب فإنه لن ينجب في النهاية إلا ثقافة الشجار ، أو لن يؤدي إلا إلى تأكيد ثقافة الغلبة.