وكأن معرفة لغة أجنبية يفترض بالضرورة إهمال اللغة الأم حتى لو كان هذا الإهمال يتخذ أشكالاً مثيرة للسخرية كما هو حال محطات تلفزيونية عربية تقدم نشراتها الإخبارية باللهجة المحكية بإدعاء أنها تجعلها أقرب إلى المشاهد – المستمع، في حين أنها في واقع الحال تجعله أكثر بعداً بعد أن اعتاد منذ البداية الاستماع إلى تلك الأخبار باللغة الفصحى فكان هذا الشكل الجديد المبتكر أشبه بترجمة فورية رديئة..
التعصب للغة الأم إلى حد رفض معرفة أي سواها ليس أكثر سوءاً من اعتبار لغة أجنبية ما بديلاً كاملاً للغة الأم ,فبمقدار ما ينطوي الأمر الأول على انغلاق لا تبيحه المفاهيم الثقافية ، ينطوي الأمر الثاني على مخاطر بعض منها انقطاع الصلة بالإرث الثقافي، والتعرض لأخطار تشبه الإبحار في المجهول، وليس في التعبير ترميزاً فحسب ،وإنما دلالة أيضاً على واقع معاش أشارت إليه مجلة (فكر وفن ) الألمانية في عددها الأحدث .ففي إحدى مقالات العدد الذي خصص بأكمله لموضوع اللغة تحدثت (خادي فال) كاتبة المقالة ، وهي نائبة رئيس جمعية خريجي الأدب الألماني الأفارقة ، عن الإرث اللغوي الاستعماري متخذة السنغال نموذجاً حيث أقرت اللغة الفرنسية منذ الاستقلال مطلع الستينات كلغة رسمية ،وحتى اليوم لا تزيد نسبة المتحدثين بها عن ثلاثين بالمئة من عدد السكان وهو ما يخلق مشاكل لا حصر لها للشباب الأفارقة الذين يغامرون بحياتهم بشكل شبه يومي من أجل الوصول إلى الشواطيء الأوربية، مضحين بمدخراتهم على ظهر قوارب صغيرة في رحلة خطيرة تنتهي في كثير من الأحيان بالغرق في أعماق المحيط الأطلسي . ولتفسير المغامرة القاتلة يلجأ المسؤلون الأفارقة والأوربيون دائماً إلى الإشارة للظروف الاقتصادية الصعبة في السنغال وباقي الدول الأفريقية التي تدفع الشباب لمحاولة الحصول المميتة على فرصة عمل في أوربا، وبهذا يتم التغاضي عن دور النظام التعليمي في المستعمرات السابقة كأحد أسباب هذه الظاهرة،فهذا النظام يسلب الشباب فرصة تلقي التعليم بلغاتهم المحلية حتى يتمكنوا من النجاح في الوسط الذي يعيشون فيه ،ويصيبهم باليأس من قدرة لغاتهم الأفريقية على مساعدتهم في تحسين آفاق حياتهم. كما يعتبر النظام التعليمي أحد أسباب الوضعية المزرية للمهاجرين الأفارقة ,ذلك أن الطالب يكتفي بتعلم المفردات والمصطلحات التي يتكرر استخدامها..
تظهر مقالة أخرى في العدد ذاته كيفية استخدام اللغة لانتزاع فرد أو مجموعة من تاريخها وثقافتها. وهي مقالة شديدة الحساسية والخصوصية لأن كاتبها،وهو يهودي من أصل عراقي يعيش في إسرائيل ، يقدم عبر سرده لعلاقته مع محيطه صورة جلية عن التمييز العنصري الذي يمارس ضد اليهود ذوي الأصول العربية، والذي يتركز في فصلهم عن تراثهم الثقافي ولغتهم الأصلية ، وعلى هذا "قسر النظام التعليمي الإسرائيلي نسل العائلات اليهودية العربية على القبول ب (الهولوكست) كما لو أنها محرقتهم الذاتية "- كما يكتب صاحب المقالة رؤوبين سنير أستاذ اللغة والأدب العربيين في جامعة حيفا– والذي يضيف : " كما لو أنها روح تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هويتهم الثقافية. أما الهوية العربية الأصلية لليهود المهاجرين من العالم العربي إلى إسرائيل حضارياً وثقافياً فقد ألقيت في سلة المهملات التاريخية" ..
في مكان آخر من مقالته التي تشرح دور المؤسسة التعليمية الأشكنازية الغربية – كما يصفها – يقول كاتب المقالة :"أرفض تماماً الأسطورة التي تغذيها المؤسسة الصهيونية ومفادها أن يهود العراق كانوا في خطر داهم أنقذتهم منه عملية إنقاذ خيالية قامت بها أجهزة الدولة اليهودية الجديدة, فالحقيقة هي أن يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتى عام 1950( رغم أن الحكومة العراقية أصدرت قراراً يسمح لهم بالهجرة) إلى أن بدأت القنابل تنفجر في بعض المعابد والمؤسسات اليهودية في بغداد. ترى من فجر هذه القنابل؟ سؤال حرج ، وبالفعل لا أعرف، وربما لا يعرف أحد ذلك الآن، ولكن يسعني القول ، بكل ثقة، إن معظم يهود العراق الذين تسنى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أي شك بهوية الجهة الفاعلة، أو بالأحرى بهوية تلك الجهة التي حققت أكبر المنافع حينما أسرع ما لا يقل عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة إلى إسرائيل"..وتفسر هذه الإشارة قول الكاتب في مقدمة مقالته :" أبصر والدايّ النور في بغداد وأجبرا على الهجرة إلى إسرائيل عام 1951وبعد ذلك بسنتين ولدت في حيفا ، وكأي يهودي إسرائيلي المولد تلقى تعليمه في إطار النظام التعليمي الإسرائيلي- الصهيوني لقنت بأن الهويتين العربية واليهودية نقيضان لا يلتقيان، وفي محاولتي للتكيف مع المعايير الصهيونية – الإشكنازية الغربية السائدة كنت، وأنا طفل، أشعر بالخجل من عروبة والديّ. أما بالنسبة لهما فلم أكن سوى عميل جهاز القمع الصهيوني الحكومي..وقد قمت بالمهمة على أكمل وجه يمكن أن يؤديه طفل أمام والديه المحبين..حظرت عليهما الكلام بالعربية في الأماكن العامة، أو الاستماع إلى الموسيقا العربية داخل بيتهما "..
يورد الكاتب مجموعة من حالات التمييز العنصري والتعتيم على الشعراء والكتّاب اليهود العرب لإيصال تاريخ اليهود العرب إلى نهايته ، وتلفت الانتباه ملاحظة أوردها في هذا السياق :" إذا التقيت اليوم يهودياً يتحدث العربية بطلاقة، فكن على ثقة بأنه إما أن يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم ، بالطبع، يتناقص باستمرار) أو أنه يعمل في إطار أجهزة المخابرات الإسرائيلية ( وعددهم ، بالطبع ، يزداد على الدوام ) . فالنخبة اليهودية – الإسرائيلية سواء كانت الرسمية أو الثقافية لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزاً حضاريا وليس هناك، مثلاً ، ولو كاتب يهودي واحد ولد بعد 1948 ويكتب بالعربية. وهكذا يتلاشى تدريجياً تراث حضاري نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام ".
">skasem@scs-net.org