ويتناول المهتمون بالعربية من لغويِّين وإعلاميِّين ومحبِّين في هاتين المناسبتين قضايا اللغة. وتدور مداولاتهم غالباً في مَنْحَيَيْن:
الأول: تمجيد اللغة العربية والمبالغة في تبيان خصائصها ومزاياها وعبقريتها، حتى ليظن القارئ أنها فوق لغات البشر قاطبة، وهذا غُلُوٌّ لا يؤيده الواقع، ذلك أنه لا تخلو لغة حيَّة ذائعةٌ من مزايا وعبقرية, وفي لغتنا العربية من المزايا وعوامل القوَّة ما لا يُحوجها إلى من ينصرها بالأوهام والمبالغات، فحَبَّذا الاقتصاد في هذا المنحى والاقتصار على ما يتطلَّبه البحث اللغوي الموضوعي.
الثاني: المبالغة والمغالاة في تضخيم مشكلات العربية في الوقت الراهن، وهو منْحى أخطر بكثير من سابقه في نظرنا.
فثَّمة من يبالغ في توصيف ضعف الأداء اللغوي عند الكاتبين أو الكتاب والأدباء، أو عند الإعلاميِّين والمعلِّمين... وتراهم يطعنون في ذلك بحجَّة الواقعية والعقلانية، حتى إنّه ليُوِهِم السامعَ أو القارئ بأن هذه اللغة لا تكاد تُفْهِم أو تمكِّن مستعمليها من التعبير عن معظم حاجاتهم التواصلية.
ومنهم من يَنْعَى لغة الإعلام، وكأنَّها عاجزة عن إيصال خبر أو معلومة على وجهه الصحيح.
ومنهم من يتباكى على حال المصطلح العربي، فهذا يصفه بالتعدُّدية والفوضى، وذاك ينعته بعدم الدقة أو الغرابة، والحوشيَّة، وذلك يحكم عليه بالتخلُّف والقصور... كلام يُلْقى بحقٍّ وبغير حقّ.
ومنهم من يضيق صدراً ببعض خلافات الكتابة الإملائية، كأن تكتب همزة (مسؤول) على الواو في الشام، وعلى نبرة في مصر، وكأنْ تكتب همزة (هيئة) على نبرة في سورية ومصر، وعلى ألف في العراق. أو أن تكتب كلمة (توأم) على الألف، أو بهمزة على السطر... ويجعلون من مثل هذه الخلافات الإملائية التي لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة قصَّة ورواية يتناقلها الرُّكبان وتُحْدَى بها القوافل!!
ومنهم من يُضخِّم من حجم الكلمات الأجنبية الشائعة في العربية. حتى ليقدِّر أنها ستكتسح العربية كلها في عقد من الزمان.
ومنهم من يحمِّل العربيةَ مسؤوليةَ ضعف بعض التراجمة وترجماتهم إلى العربية، حتى لَيكاد يُوِهَم بعضهم أن العربية لغة انعزالية متقوقعة على زمن ماضٍ، وأنها غير قابلة لتحقيق التواصل مع غيرها من اللغات.
ومنهم ومنهم....
إنَّ من يستمع إلى هذه الأقوال يكاد يظن أن اللغة العربية في غرفة العمليات أو في غرفة العناية المشدَّدة، وأن الناس خارجها يدعون لها بحُسن الختام!! حتى إن بعض اللغويين المحبَطين لا يخفون مثل تلك المشاعر.
ولا شكَّ في أن بعض هؤلاء المتداولين يَصْدر عن غيرةٍ على العربية وحبٍّ لها. كما لاشك في أن بعضهم يَصْدر عن غيرةٍ من اللغة العربية وكُرْهٍ لها.
وإلى هذا الفريق الثاني نقول: خفِّفوا من غَلْوائكم وغُلوِّكم:
فضعف الأداء اللغوي ليس مقصوراً على العربية، بل إن معظم لغات العالم بما فيها اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية تعاني من مثل ما تعاني لغتنا، وإن بدرجات متفاوتة، ويندر أن نجد أمة لم تؤلف لجاناً متخصِّصة لعلاج ذلك الضعف، وللنهوض بلغتها وحمايتها، حتى إنها لتسنُّ القوانين الملزمة في هذا الميدان. وما قانون (توبون) الفرنسي ببعيد.
وأمَّا عن ضعف لغة الإعلام، فإننا نحيل إلى دراسة في إيطاليا كشفت أن التلفزيون الإيطالي يرتكب غلطة لغوية في كل عشر دقائق!! وإلى الماضويين الذي يُفْتَنون بماضي لغة الإعلام أقول: اقرؤوا مقالة لكُتَّاب بداية عصر النهضة وقارنوها بلغة إعلاميَّينا المعاصرين، وسوف تكتشفون أن لغة إعلاميِّينا ليست سيئة، إن لم نقل بخير- تكن كما يُرجَى منها.
وأمَّا إلى من يضيق صدراً بخلاف الرسم الإملائي في بعض البلاد العربية فنقول: ما يضير الخلاف في هذا الرسم الذي لايجاوز (2%) من قواعده بالقياس إلى التوافق على (98%) منها، ومثل هذا الخلاف واقع في كل لغات العالم, علماً بأن المؤسسات اللغوية العربية متوافقة على الرسم الإملائي، وإن ما نجده من خلاف مردُّه إلى عادةٍ كتابية مألوفة لا غير في بلدٍ ما، تجهد المؤسسات اللغوية في إقصائها.
وأمَّا من يهوِّلون من دخول الكلمات الأجنبية إلى لغتنا، فلعلهم يتجاهلون أنَّ ما من لغة إلا وتشكو من مثل هذه الحالة. ألم يكتب أحد كبار مثقفي فرنسا كتاباً بعنوان (هل تتكلم الفرنسية الإنكليزية) ويسميها (الفرانكلية)؟. أي إن الفرنسيين يَشْكُون -على قوة لغتهم- من كثرة الكلم الدخيل فيها. ومن المعروف أن نحو (40%) من مفردات اللغة الفارسية المعاصرة هي من العربية؟ وأن نحو (20%) من اللغة التركية المعاصرة هي من العربية. والقوم يحاولون استعادة النقاء اللغوي إلى ألسنتهم، وهذا حقُّهم، ونحن نقوم بذلك أيضاً، فقد أنجز مجمع اللغة العربية بدمشق معجماً سمَّاه (معجم المقابلات العربية للكلمات الأجنبية الشائعة)، سوف يطبع قريباً، وسوف يكتشف القارئ أن تلك الكلمات لا تتجاوز ألف كلمة، كلَّها من ألفاظ الحياة اليومية المتداولة، ونحن -وإن كنا لا نستهين بهذا العدد- إلا أنه لا يخيفنا كثيراً بالقياس إلى بحر العربية الزاخر. وسبق أن دخلت إلى اللغة العربية كلمات فارسية وراجت، حتى إن بعض المعجميِّين كان يشرح الكلمة العربية أحياناً بكلمة فارسيَّة... ثم ذهبت الكلمة الفارسية وبقيت الكلمة العربية، وهذا من طبائع اللغات.
وأمَّا عن تعدُّد المصطلح العلمي العربي، فلعلَّ خير من يفنِّد المزاعم حوله المرحومُ الدكتور عدنان الحموي عالم الرياضيات وخريج الجامعات الفرنسية ورئيس تحرير مجلة (العلوم) النسخة العربية لمجلة (ساينتفك أمريكان)، إذ قال: إن التعدُّد المصطلحي موجود في جميع اللغات وضرب أمثلة كثيرة على ذلك من مصطلحات اللغة الإنكليزية نفسها.
وأما عن اختلاف التراجمة والترجمة إلى العربية فهو ليس أكثر من اختلاف التراجمة في اللغات الأخرى، وما من مترجم لاحقٍ إلا ويشير في مقدمة ترجمته لكتاب سبقَتْ ترجمته إلى أنَّ ما رفى إليه هو تصحيحُ وتصويبُ ما وقع فيه صاحب الترجمة السابقة من أغلاط فادحة.
وبَعْدُ... فنحن لسنا ممِّن يدفن رأسه في الرمال لكي لا يراه الصياد، ولسنا ممَّن ينظر بعين الرضى إلى ما هي عليه حال لغتنا، ولا يقلِّل كثيراً ممَّا يحيط بها من تحديات ومخاطر تقلقنا ولا تخيفنا.
ولكنَّ ما زاد على حدَّه انقلب إلى ضدِّه كما يقال. ونحن نخشى أن يكون الدافع إلى المبالغة والغُلُوّ في توصيف واقع اللغة العربية عند بعضهم هو الإزراء باللغة العربية والحط من مكانتها وقيمتها، وكأنَّها لغة لا تصلح للتواصل ولا للحياة المعاصرة، ولسان حالهم يقول لأبنائنا وناشئينا: إذا كانت لغتكم على هذه الدرجة من التدنِّي فلماذا أنتم متمسِّكون بها؟ ولماذا لا تهجرونها إلى لغة عالمية أجنبية تغنيكم عنها؟ وهو ما درج على ترويجه أعداء العربية من المستشرقين والمستغربين.
إننا نرى وراء هذه المبالغة والغلوّ في تضخيم أدواء اللغة العربية وأعراضها المرَضَيَّة المقلقة غَرَضاً سامّاً وهو تزهيد أبناء اللغة العربية ليهجروها ويغادروها إلى غيرها ممَّا يسمُّونه لغة كونيَّة، وكأنَّ لغة الأمة ثوبٌ نرتديه متى نشاء ونخلعه متى نشاء!! لا إنها جلدنا وجلدتنا لا نغادرها إلا بمغادرة روحنا جسدنا.
عربيتنا باقية مهما أرجف المرجفون، وزهَّد المزهِّدون... وهي على حدِّ قول الأديب الفرنسي (جول فرن) لغة المستقبل، وعلى حدِّ قول الأديب الحائز جائزة نوبل (جوزيلا): سيموت كثير من اللغات ولن يبقى إلا أربع منها إحداها العربية.
كلُّ يوم للغة العربية وأنتم بخير.