من أجل التهرب من استحقاقات التسوية، في أثناء الدعوة التي وجهها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب لعقد مؤتمر دولي للسلام في مدريد خريف 1991.. استمر الحزم الأميركي مع «إسرائيل» عندما قررت إدارة جورج بوش الأب -جيمس بيكر عقد مؤتمر مدريد. وقتذاك حصل تطور في غاية الأهمية تمثل في طريقة تعاطي الإدارة الأميركية مع «إسرائيل» لكونها دولة من دول المنطقة تعتمد على النفوذ الأميركي والقوة العسكرية الأميركية وتنفيذ ما تطلبه منها واشنطن من دون وضع شروط أو طرح تساؤلات أو أي أخذ ورد.
ولما جاءت مرحلة الإعداد لمؤتمر مدريد، سعى شامير إلى التملص من أي التزام نظراً إلى أن همه كان محصوراً في التفاوض من أجل التفاوض بينما عملية بناء المستوطنات في الضفة الغربية مستمرة. عندئذ قررت إدارة بوش الأب التحرك وجمدت مبالغ كان الإسرائيليون ينوون استخدامها في بناء مستوطنات جديدة. ما حصل باختصار شديد، أن شامير جُرَّ جرّاً إلى مؤتمر مدريد الذي انعقد استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام.
هناك حالة من التماثل بين ما نشهده اليوم من تطورات وما شهدناه في عام 1991. فالرئيس باراك أوباما يعي جيداً أنه لا يمكن تحقيق تسوية من دون وقف الاستيطان، ولا سيما أن الاستيطان بات يشكل عقبة بنيوية أيديولوجية وسياسية ونفسية في «إسرائيل» أمام التقدم في أي تسوية مطروحة.
ولهذا السبب بالذات كان الإصرار الأميركي ومعه المجتمع الدولي على ضرورة تجميد الاستيطان. بيد أنه في الوقت الذي يخوض فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما معركة الاستيطان مع الكيان الصهيوني، نجده بالمقابل يطالب الدول العربية بـ «التطبيع» مع «إسرائيل» مقابل الضغوط لوقف الاستيطان.
فالزخم القوي للرئيس أوباما نحو التسوية تراجع في مدة قصيرة نسبياً في ظل رفض «إسرائيل» الانصياع لموقف الإدارة الأميركية بشأن موضوع الاستيطان. وبعدما كانت انطلاقة أوباما قوية وتوقع كثيرون له النجاح إذا استطاع عبور العقبة التي واجهته بها «إسرائيل» حول الاستيطان، تحول الحديث عن تسوية في موضوع المستوطنات بحثاً عن صيغة مقبولة قادت إلى توجيه الأنظار نحو العرب من أجل مطالبتهم بخطوات تطبيعية مسبقة مع «إسرائيل» لتشجيعها على التخلي عن المستوطنات.
في هذا السياق حصل اجتماع في 13 تموز الجاري في البيت الأبيض بين الرئيس باراك أوباما وعدد من مساعديه بينهم رئيس فريق موظفي البيت الأبيض ورام إيمانويل الذي تربطه بالقيادات اليهودية و«بإسرائيل» علاقات قوية، ومستشار الرئيس للشؤون الداخلية ديفيد اكسلرود ومسؤول قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي دانيال شابير، وبين 16 قائداً يهودياً يمثلون الطيف السياسي والديني في أوساط اليهود الأميركيين باستثناء الذين يمثلون الخط اليميني المتشدد جداً والمتحالف مع اليمين الفاشي الإسرائيلي، حيث كان من بين اليهود ممثلون لتنظيمات تدعو إلى وقف الاستيطان الإسرائيلي مثل «أميركيون من أجل السلام الآن»، و«تنظيم Street» الذي يطرح نفسه بديلاً ليبرالياً من «اللجنة الأميركية- الإسرائيلية للشؤون العامة»، «آيباك» التي تعتبر الذراع الأساسية لقوى الضغط (اللوبي) المؤيدة «لإسرائيل»، والتي كانت ممثلة أيضاً في الاجتماع، واستناداً إلى تصريحات القادة اليهود والتي أكدتها مصادر البيت الأبيض، أبدى بعضهم قلقه من الانطباع الذي تكوّن نتيجة إصرار أوباما علناً على تجميد «إسرائيل» كل أنواع الاستيطان للأراضي الفلسطينية، من غير أن يبدي في المقابل حزماً مماثلاً في مطالبه من الفلسطينيين والعرب.
وردّ أوباما بإعادة تأكيده ضرورة وقف الاستيطان الإسرائيلي وفقاً لتعهدات «خريطة الطريق»، إلا أنه أضاف: أنه يجب عدم النظر إلى هذه المسألة بمعزل عن مطالبة من الأطراف العرب وضغوطهم عليهم. فهو يمارس ضغوطاً مماثلة على الفلسطينيين والدول العربية لدعم جهود تحقيق التسوية، كاشفاً في هذا السياق أنه بعث برسائل إلى الدول العربية طلب فيها اتخاذ إجراءات محددة منها السماح لطائرات «العال» الإسرائيلية بالهبوط في المطارات العربية، ومنح المواطنين الإسرائيليين تأشيرات دخول «فيزا» لزيارة الدول العربية، وفتح مكاتب للتبادل التجاري وغيرها من الإجراءات.
وكانت وزيرة الخارجية الأميركية أوضح من أوباما عندما قالت أمام مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن قبل فترة للعرب الذين يتسلحون بالمبادرة العربية للسلام التي أقرت في قمة بيروت وأعادت قمة الرياض تفعيلها في عام 2007، أن هذه المبادرة «إيجابية» لكنها لا تكفي، وأن على القادة العرب الذهاب أبعد من ذلك.
لكن ذلك كله مطلوب أميركياً ليس في مقابل إقامة دولة فلسطينية وانسحاب «إسرائيل» من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وإيجاد حل عادل نسبياً لقضية اللاجئين، وإنما كي يسهل على واشنطن إقناع نتنياهو بوقف مؤقت للاستيطان. ولم يعد مقبولاً أميركياً أن يقول العرب مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية وإقامة دولة فلسطينية بحدود 1967.
إن مطالبة العرب بالتطبيع المسبق مع «إسرائيل» مقابل وقف الاستيطان يعزز الشكوك في قدرة الإدارة الأميركية على فرض تسوية على «إسرائيل». ففي تاريخ مشروعات تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، كان التطبيع خطوة لاحقة، أو موازية للتسوية، والتسوية معناها أولا استعادة الأرض عكس المعادلة الجديدة التي أقرها أوباما: تطبيع عربي مقابل وقف الاستيطان الإسرائيلي؟
كاتب تونسي