أو النسق الأسطوري وربط كثيرون بين ظهور الشعر الحداثي وولوج الأسطورة جسدَ القصيدة بصفتها بعداً بنيوياً شعورياً، كتب صلاح عبد الصبور في (حياتي مع الشعر): (إن الدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس هو مجرد معرفتها، لكنه محاولة إعطاء القصيدة عمقاً أكثر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري، أو هو بالأحرى حفر القصيدة في التاريخ)، وأكد يوسف سامي اليوسف أن الأسطورة لم تلج جسد القصيدة لتكون (بمنزلة عتلة رافعة لها، إنما جاءت بوصفها الرؤيا الشعرية نفسها، وبوصفها جوهر التركيب البنيوي للقصيدة عينها)، وبذلك تحققتْ فوائد فنية جمّة تمثلت في (تعميق الكيف الدرامي للقصيدة، وإعطاء المفاهيم والتصوّرات بُعداً شخصياً، وإعطاء المضمون بُعداً كونياً، والتخلص من الزمن وتعطيله والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهّر والتجدّد). وقد استرفَدَ شعراء الحداثة الرواد بدايةً الأساطير الإغريقية والرومانيّة، كأن نقرأ لأدونيس على سبيل المثال توظيفاً لأسطورة سيزيف في بعض مقاطع (أغاني مهيار الدمشقي)، ولا سيما قصيدة (الإله الميت)، المقطع الموجّه (إلى سيزيف)، وكأن مهياراً يريد أن يقول من خلاله: إنه اختار هذه الدرب الشاقة، فهو سيحمل معه صخرته الأبدية دافعاً ثمن حريته التي سلبوه إياها غالياً، ومحاولاً حتى الرمق الأخير تغيير الواقع:
(أقسمتُ أن أكتبَ فوقَ الماء/أقسمتُ أن أحملَ مع سيزيفْ/صخرتهُ الصماءْ.
أقسمتُ أن أضلّ مع سيزيفْ/أخضعُ للحمى وللشرارْ/أبحثُ في المحاجرِ الضريرهْ
عن ريشةٍ أخيرهْ/تكتبُ للعشبِ وللخريفْ/قصيدةَ الغبارْ.
أقسمتُ أن أعيشَ مع سيزيفْ).
وكأن يستلهمَ السياب أسطورة (سربروس) في قصيدتهِ الشهيرة (سربروس في بابل)؛ مشيراً من خلالِ سربروس إلى شخصية الطاغية الذي كان يحكم العراق زمن نظم القصيدة:
ومن ثُمَّ استلهم الشاعر العربي الحديث الأساطير الفرعونيّة وأساطير ما بين الرافدين والسورية القديمة، فشاهدنا في فضاءاتِ نصوصهم إلى جانب (أوليس وسيزيف وزوس وبرمثيوس وأفروديت وفينوس...) شخصيات مثل: (رَعْ وإيزيس وإنانا وعشتار وجلجامش، وعنات وبعل، وأنكيدو...)، مع تأكيد حضور أساطير الخصب والانبعاث (تموز، الفينيق، العنقاء، أدونيس، عشتار، بعل) ولا سيما بعد النكبة في الخمسينيات والستينيات كرمز على انبعاث الحياة وتجددها بعد الموات، وعلى انبعاث الأمة، وبرزت مجموعة الشعراء التموزيين من أمثال: أدونيس، والسياب، وحاوي، فقرأنا لأدونيس ضمن هذا السياق قصيدة (البعث والرماد) على سبيل المثال لا الحصر، وقرأنا لخليل حاوي في ديوانه (الناي والريح)، ما يقود إلى المصب نفسه، وكان السياب في (أنشودة المطر) قد سبق إلى استلهام أسطورة الانبعاث والنماء ولكن بعمق شديد، ودون أي ذكر للفينيق أو تموز أو سواهما، فقد جاء التوظيف ضمنياً يومئُ ولا يصرّح.
وجاءت النقلة النوعيّة في الانتقال من توظيف مختلف تلك الأساطير - التي تنتمي إلى تراث المنطقة أو ما وفد إليها - إلى استدعاء الشخصيات التراثية العربية (مسيحيّة وإسلاميّة وسواها)، واستخدامها أدوات فنية، أو لنقل راح الشاعر يعبّر بها عما يريد، ولم يعد يعبّر عنها، ويروي قصتها في جسد القصيدة - كما كان الشأن في مدرسة الإحياء - فاستخدمها رموزاً وأقنعة ومرايا وما إلى ذلك، ومن هذه الشخصيات على سبيل المثال: (محمد (ص)، علي (ك)، المسيح (ع)، مريم، ألعازر، أبو ذر الغفاري، خالد بن الوليد، الشنفرى، الخضر، صقر قريش، المتنبي، ديك الجن، كليب، مهيار، الرشيد، الحلاّج، زرقاء اليمامة، الحسين ...)إلخ.