وترافقت كذلك مع تحولات جوهرية في المفاهيم العامة التي كان معمولاً بها ومتعارفاً عليها بين الشعوب العربية على ساحة الوطن العربي، وكانت مجرد الإشارة على تجاوزها من قبل أحد الأطراف جريمة يستنكرها جميع العرب في العلن على أقل تقدير ، وتماشياً مع الأدوار المرسومة للرجعية العربية من قبل الامبريالية العالمية قامت دويلات النفط الخليجية بتحركات على الساحة العربية أدت بمجملها إلى اصطفافات سياسية وفكرية واجتماعية جديدة نتج عنها ما يُسمى مجازاً « بثورات الربيع العربي » التي أطاحت بقادة بعض تلك الدول وقامت بتدمير الدولة بالكامل في البعض الآخر ومن ضمن هذا البعض الآخر كان مُعداً لسورية أن تكون الضربة القاضية لها بحيث لن تقوم للعروبة قيامة بعد تحقيق ذلك الحلم الصهيوني القديم الجديد ، من هذه الأسئلة المطروحة بقوة بعد إنجاز أهم حلقات مسيرة الإصلاح في سورية ونعني هنا الدستور الجديد : ما هي نظرة السوريين لثورة الثامن من آذار في مرحلة معقدة سيطرت فيها المفاهيم الضيقة على جوهر رياح التغيرات الجديدة من جهة ، وعجز المخطط الأميركي – الصهيوني – الخليجي أن ينال من قلب العروبة الصامد « دمشق » بعد مُضي قرابة العام على المؤامرة من جهة أخرى ؟ وهل تختزن ذاكرة السوريين انجازات الثورة التي تغنَّى بها الكتاب والشعراء على الساحة السورية لقرابة خمسة عقود ماضية وكانت نتائجها هذا الصمود الأسطوري في وجهة معركة تدمير سورية وتقسيمها ؟
في وقفة تاريخية محايدة عما يجري في هذه الأيام يجب أن نعترف بأن ثورة آذار كانت انتفاضة شعبية صادقة ضد مظاهر الظلم والاستبداد التي كانت سائدة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سورية قبل الثامن من آذار عام 1963 ، وكانت الثورة عبارة عن تمرد شعبي سلمي قادته طلائع البعث لتغيير الواقع الفاسد المتخلف الذي كان سائداً وتبديله بواقع جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بإرادة الثوار الوطنيين الذين عانوا الاضطهاد بكل ألوانه محققين بذلك النصر الكبير دون أن تسقط قطرة دم واحدة على الساحة السورية أثناء الثورة أو بعدها ، على العكس تماماً من التحركات الإرهابية التي يقوم بها البعض ممن يُسمون أنفسهم اليوم ثواراً في الوقت الذي يقومون فيه بقتل شركائهم في الوطن لمجرد الخلاف بالرأي أو بالدين !!
وبالعودة إلى أيام الثورة الأولى نستحضر التأييد الشعبي الواسع الذي عبرت عنه جماهير الشعب السوري الذي خرج من رقاده القسري معلناً وقوفه إلى جانب الثورة ضد الأنظمة الرجعية المرتبطة عاطفياً ومصلحياً بعجلة الاستعمار المندحر إلزامياً بقوة وعنفوان المقاومة الوطنية الشريفة التي حققت الاستقلال الأول .
لقد تعرضت ثورة البعث في سورية خلال مسيرتها إلى معارك عديدة كان بعضها من الخصوم ممثلاً بالكيان الصهيوني وعملائه في المنطقة وخارجها ، وبعضها الآخر من داخل الحزب ذاته كانت مفصلية و تاريخية ، تمكنت قيادة البعث الواعية أن تتغلب على جميع المعارك بفضل الاحتضان الشعبي الكبير لها من جهة ، وقدرتها على التغلب على ضيق أُفق بعض قياداتها وتصويب الموقف بشجاعة كما حدث في حركة 23 شباط عام 1966 ، وكانت نكسة حزيران عام 1967 قاسية بتبعاتها وأدت إلى تحرك مُتسارع للأحداث على الساحة الحزبية نتج عنه قيام الحركة التصحيحية التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد ، وكانت أهم إنجازاتها حرب تشرين التحريرية والانتصار العربي الأول على الكيان الصهيوني الغاصب .
قد لا نستطيع بهذه العجالة سرد إنجازات ثورة الثامن من آذار على الساحة الوطنية والعربية ، لكننا نجد بالرغم من عظمة هذه الانجازات بأن حزب البعث العربي الاشتراكي مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى لاستنهاض هممه وتجميع قواه على الساحة الوطنية بما يكفل له دوراً قيادياً بقوة ديمقراطية الشارع السوري بعد فقدان المادة الثامنة بالدستور القديم التي كانت تُعطيه حق قيادة الدولة والمجتمع وإحلال مكانها تشريع التعددية السياسية التي تفرضها صناديق الانتخاب ، ونحن على قناعة بأن البعث بمكوناته الفكرية وأدبياته الثقافية الغنية ، مع ضرورة البحث جدياً ضمن كوادره الغنية عن قيادة مخلصة لهذه الذخيرة الثرة تستطيع تحقيق الانتصار المطلوب ، لأن الشعب السوري يختزن الكثير من الوفاء لانجازات البعث وثورته ، وعلى مؤتمر البعث القادم أن يُحرك الذاكرة السورية من خلال إصدار قرارات تُلبي متطلبات المرحلة وخاصة في مجال تجديد ذاته بالمرونة المطلوبة والتغلب على حالة تطييب الخواطر التي قد تؤدي إلى فقدان دفة السفينة لتوازنها ومن ثم الغرق المحتم .
Email:m.a.mustafa@mail.sy