- «إن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيراً» قول من التراث العربي.
ما من شاعر ترك المكان في قلبه أثراً كبيراً، كما تركت دمشق في قلب نزار.. وفي الذكرى السنوية لوفاته 30 نيسان 1998 نتذكره والمدينة التي أحب تصبر على ظلم ذوي القربى.. وهي التي أعطتهم ومنحتهم الكثير ولم تغلق أبوابها وأسوارها في وجه أحد يوماً..
نتذكره ودمشق تشكو نكران الجميل من القريب قبل البعيد، دمشق مدينة التسامح والإخاء والمحبة والتناغم بين الأديان نتذكر الشاعر الذي عشق كنائسها والمساجد، وكل حجر فيها..
فدمشق كانت تتكمش كما يتكمش الرضيع بثديي أمه، كانت مستوطنة في دفاتره.
حروف أبجديتي
إن المراحل المتأخرة من شعر نزار وربما بعد الغربة وخلالها كما يرى د. علي عقلة عرسان كانت في معظمها إعادة صوغ لما كتبه في الشام ولكن بشكل فني مغاير فيها مهارة صانع أتقن فنه، فهو بعد أن افتقد من حوله روح الشرق المتوثبة بقي له منها رصيده القديم الكبير الذي يعمر القلب ويغمر الذاكرة، فأخذ يسترجع ذلك ويجدد النسيج القديم، مضيفاً إليه صنعة مترفة ومعرفة طعمت ما أنتج بفن غربي وإنساني استقاهما أو تأثر بهما فهو ما خرج من شرنقة نسجها حول نفسه في الشام هي الشام بكل ما تعنيه له.
مع الإشارة إلى دفء عاطفي وانتماء صبغا المراحل الأولى وخبأ وهجهما في المراحل المتأخرة يقول:
ومن يقرؤون قصائدي
يوماً .. سيقطر من أصابعهم
وفوق ثيابهم .. توت الشآم
ويقول أيضاً:
دمشق دمشق
يا شعراً .. على حدقات أعيننا كتبناه..
يا طفلاً جميلاً .. من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته .. وذبنا في محبته
إلى أن في مجتمعنا قتلناه..
وعندما مرض نزار وجد الوطن كله بأرضه وسمائه وأشجاره وأنهاره وبحاره ورجاله ونسائه وأطفاله ليدافع عن حياته ويمسح العرق عن جبينه ويؤدي صلاة جماعية من أجل نجاته ويتساءل الشاعر الدمشقي..
لماذا يختارني الوطن دون غيري من الشعراء ويجعل غرفتي في مستشفى سان توماس مهرجاناً للورد والعطر ومكاتيب الهوى؟
ويجيب: ربما لأنني رفعت الكلفة بيني وبين الوطن وجلست مع الناس على بساط المحبة والديمقراطية وتقاسمت معهم لغة شعرية لا تختلف عن بساطتهم عن حديثهم اليومي، وربما لأنني لا أمارس الغش والخديعة والنفاق في كتابتي ولم أنحن أمام سلطة سوى سلطة الله.. ولأنني كنت شاعر الناس.. لم يتركني الناس لحظة واحد، بل حموني بصدورهم وأهدابهم واستوطنتي غرفتي رقم 12 في مستشفى سان توماس ليلاً نهاراً.
دمشق تهديني شارعاً
وبعد أسابيع من تعافي نزار كان أحلى خبر سمعه هو قرار الرئيس الراحل حافظ الأسد بإطلاق اسمه على أحد الشوارع العريقة في (أبو رمانة) وعن ذلك يكتب مقالة شعرية نشرت في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 27/3/1998 وفيها يقول: وأخيراً شرفتني مدينة دمشق بوضع اسمي على شارع من أكثر شوارعها جمالاً ونضارة، هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنة..).
ويرى أن خريطة العبقرية الشامية تنحدر من أعالي جبل قاسيون حتى سفوح نهر بردى، حيث كانت إقامة كبار الشعراء العرب ومنهم الخليفة عبد الملك بن مروان، وأمير الشعراء أحمد شوقي، والشاعر خليل مردم بك، والجاحظ والشاعر محمد البزم، ومحمد كردعلي، والأمير شكيب أرسلان.
فيا أيها الواقفون أمام الشارع الجميل الذي يحمل اسمي في حي (أبو رمانة).. تذكروا... أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع.
لعبت فوق حجارته وقطفت من أشجاره.. وبللت أصابعي بماء نوافيره.. تذكروا أنه كان أبي.. وأمي.. ووطني.. وقصائدي التي طارت كحمام الشام من المحيط.. إلى الخليج..
الرسم الجميل، يرسمه رسامون دمشقيون..
والورد الدمشقي يزرعه مزارعون دمشقيون..
والقومية العربية.. تصنعها السيوف الدمشقية..
ويشاء الله أن تكون هذه المقالة آخر كلمات نزار ليصاب بعدها بوعكة وأزمة قلبية ويدخل غيبوبة لا يصحو منها، وتنتهي بوفاته وعودته إلى دمشق حشو الكفن يقول:
أعود إلى دمشق ممتطياً صهوة سحابة
أعود ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا
حصان العشق.. وحصان الشعر
لقد ترجم شعر نزار إلى لغات سبع رئيسية وتجاوزت قصائده الحدود ترجمة وغناء فقد قفزت قصائده المغناة إلى أرقام خيالية، لكن كل من غنى لنزار لم يحصد ما حصدته فيروز في القصيدة التي ألقيت في معرض دمشق الدولي فقد فاقت كل التوقعات كما يقال،والسبب أن الشاعر أعلن رفضه المستقرات الجديدة، وأبرز شعوره الحقيقي لحاضنته الثقافية الأولى دمشق وفيها يقول:
لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا
وقد بكينا وبللنا المناديلا..
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا
قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا
يا شام يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددت لو زرعوني فيك مئدنة
أو علقوني على الأبواب قنديلا.