تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


خــــــــــارج الســــــــــرب..!!

رسم بالكلمات
الاثنين 2-5-2011
رمضان إبراهيم

هكذا نام يوسف في تلك الليلة..

دسّ نفسه تحت البطانيات الثلاث التي تفوح منها رائحة كريهة لم يألفها طوال خمسة عشر عاماً.. لكنه ظل عاجزاً عن استبدالها. أغمض عينيه محاولاً الخروج بمخيلته خارج المكان.‏

كيف أصبحت الشوارع والأبنية والساحات وهل تغيرت الأشياء في مدينته؟! كيف سيلتقي زوجته وأطفاله؟! ربما لم يعودوا أطفالاً! الصغير الذي كان في السابعة عندما اقتادوه إلى السجن, لاشك سيجده وقد ارتسم على وجهه شاربان وربما لحية خفيفة.‏

ارتسمت المقبرة أمامه وشاهدةٌ مكتوب عليها الفاتحة واسم أبيه, وفي مكان غير بعيد عنها شاهدة أخرى وعليها الفاتحة أيضاً واسم والدته.. فأقسم على الفور أن أول ما سيقوم به هو زيارة قبر والديه قبل أي شيء آخر.‏

عادت مخيلته إلى المهجع وبدأت تحوم في زواياه .. ضحك في سره بعد أن تذكر الطريقة التي أوصلته ليكون رئيساً للمساجين, ثم تساءل وهو يغمض عينيه في ظلام ما تحت البطانية:‏

- وماذا يعني ذلك؟!..‏

لاشيء سوى تأمين الراحة للمسؤول المناوب .. سيأتي ليأخذ التفقد المسائي, سيقف خلف الفتحة الصغيرة التي يتعثر الهواء عند الدخول منها.. فتحة بحجم ورقة من دفتر مدرسي صغير.. لا تسمح لليد الواحدة بأن تخترقها.. حتى ولا لاصبع واحدة, فالقضبان الحديدية تقسّمها إلى فتحات عديدة وصغيرة. سأقف ناظراً إلى من بالداخل وسأعطيه التفقد بكل ثقة!.. لن يجد نفسه مرغماً على فتح الأقفال المتعددة والدخول للتأكد من أمانتي!!.. سيكتفي كعادته بهز رأسه والقول:‏

- ناجحٌ في عملك يا يوسف!‏

هذا المساء.. لا يعلم لماذا أعادته تلك الكلمات إلى أيام الدراسة. كيف كان يصنع من أوراق دفتر المدرسة أشكالاً لطائرات مختلفة وزوارق متنوعة .. كان الأستاذ يقول له:‏

- ناجحٌ في عملك يا يوسف .. ستصبح صاحب أكبر مصنع لصناعة الطائرات! أمّا معلّمة اللغة الأجنبية فكانت تنظر إليه بعينيها الجميلتين، تبتسم وتقول له:‏

- ستكون بحاراً عظيماً يا يوسف .. وربما ستكتشف ما لم يكتشفه كولومبس. أما والده فكان يكيل له الشتائم والصفعات إذ لا يملك ما يكفي من مال لإطعام أخوته العشرة، أو لشراء دفاتر وكتب أخرى.‏

لكنه كان يتساءل دائماً: لماذا يُكثر الناس من إنجاب الأولاد؟!‏

عندما طرح هذا السؤال على أحد أصدقائه, استغرب الإجابة وخصوصاً عندما بدأ ذلك الصديق بشرح الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد والحروب المتوقعة في كل لحظة:‏

- الحروب تحتاج إلى المزيد من المقاتلين؟!‏

أمّا يوسف فكان يضحك ويتساءل بكثير من الاستهزاء:‏

- عن أيّ حروب تتحدث؟!‏

- الحروب المقبلة!.. ستلتهم أرواح العديد من الشباب.‏

- يا رجل!!.. أصبحت الحروب تعتمد على التكنولوجيا أكثر من اعتمادها على الأشخاص.‏

- ومن قال لك هذا؟!.. يبقى الإنسان هو العامل الحاسم في أي حرب.‏

- أوافقك الرأي. ولكن .. ألم تسمع بالطائرات التي تغير على مناطق بعيدة, لتقصف فيها أهدافاً وتعود دون أن يكون فيها أحد؟!‏

كان هذا السؤال حاضراً في مخيلة يوسف بشكل دائم . لكنه هذه الليلة وهو في ظلام البطانيات تذكّر أمراً طالما أثار في نفسه الضحك والتعجّب. لقد ارتسمت أمامه صورة المدرب وهو ينهي محاضرته أيام خدمته الإلزامية بهذه العبارة. وكيف يقف حائراً أمام بعض الأسئلة والاستفسارات.‏

كان صديقه يقف مرتبكاً وحائراً تماماً كذلك المدرب. ثم لا يلبث أن يقول:‏

- نعم .. ربما .. ولكن الإنسان هو حاجة!... ثم يصمت قليلاً ويشعل سيجارته.‏

ازداد الضجيج في الخارج, لكن يوسف لم يرفع البطانيات عن رأسه ليتبين ما يجري بل بدأ يختلس السمع للأحاديث التي تدور. قال أحدهم:‏

-وهذا المجنون النائم الذي يستعجل الصباح كي يخرج ..هل سيستطيع العيش على رقعة كبيرة من الأرض، يذهب حيث يريد وينام متى يريد, ويأكل ويشرب ويلبس كما يشتهي ويتمنى؟!..كيف سيتعامل مع الناس؟!. هل سيقبله المجتمع أم أنه سيجد نفسه مرغماً على العودة إلى هنا مرة ثانية؟!‏

وقال آخر:‏

- من المؤكد أنهم فصلوه من وظيفته.. سيجد نفسه مضطراً للبدء من جديد! ربما سيرهقه التسكع في الشوارع وعلى أبواب أصحاب المعامل والمحال التجارية وأصحاب الشأن الكبير.. أقول ربما.. لكنني متأكدٌ من أنه سينتحر في النهاية.‏

وقال ثالثٌ كان نادراً ما يتكلم:‏

- لن يتمكن من إيجاد أيّ عمل!.. سيطلبون منه وثيقة غير محكوم.. وسيعجز عن تأمينها.. واثقٌ من عودته.. لقد اعتاد هنا على وظيفته التي لا تتطلب الكثير من التعب!..والتي لا تتطلب أيّ وثيقة أيضاً!..أعتقد أنه لن ينتحر بل سيصاب بالجنون.‏

وقال آخرون وقد اختلطت أصواتهم وصيحاتهم:‏

- دعونا ننام.. لدينا أحلامنا التي اعتدناها!..لا نريد أن نتأخر عليها!‏

عندها أطلّ المناوب من خلال ثقوب الفتحة الصغيرة, لكنه لم يجد يوسف واقفاً بانتظاره. عندما سأل عنه أخبروه أن يوسف يغط في نومٍ عميق, فضحك مطولاً ثم قال:‏

- مسكين!.. كان ناجحاً في عمله.‏

أمّا يوسف فقد نام نومته الأخيرة دون أن يتمكن من الرد على الأصوات التي علت, والتي تطالبه بحمل العديد من الرسائل الشفهية إلى من هم في الخارج !!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية