وكل أبناء الجولان الذين كانت لهم تجربتهم القاسية مع ويلات المحتل، وشهدوا أساليب الغدر والخيانة منذ دخول عصابات الاحتلال.. بقي طعم المرارة والقهر يرافقهم طوال سنوات عمرهم، فهذا هو الحاج محمود شبيب أبو ناصر يروي بعضاً مما شهدته قريته مع الكثير من القرى المجاورة حتى قبل عام الـ 1967 قائلاً: كان الشعب السوري الجولاني أعزل بالكامل، وكان الاحتلال غادراً ومفاجئاً، لم يحدث ذلك بالصدفة، فقد كان كل شيء مخططاً له ضد سكان الجولان البسطاء الذين يعيشون حياة هادئة مع أولادهم وأقاربهم وجيرانهم.. فقد كانت تدخل عصابات إجرامية على بيوت بعض القرى القريبة من بحيرة طبرية ومن مناطق الاحتلال، على أساس أنهم ضيوف، أو عابروا طريق، وحتى بصفة متسولين ثم يقتلون أهل البيت ويسرقون مافيه من أموال أو ممتلكات وطعام.
لم نكن حينها ندرك حجم الخديعة والمؤامرة التي تدبر للجولان وأهله، ولم يعجبهم أن يعيش سكان هذه القرى بسلام ومحبة، كانت تستمر الهجمات وتكرر في هذه القرية، وفي تلك القرية كنا نسمع عن مجازر الذبح والقتل على مفارق الطرقات، وفي ساحات القرى في غفلة من الزمن وفي عتمة الليل ينتشر الخوف في كل مكان.
بداية الذكريات
كنت شاباً أساعد والدي في أحد الكروم القريبة من القرية عندما وصلتنا أخبار المجازر في قرية سكوفية.. و كيف أخذوا الشباب وقتلوهم أمام أعين ذويهم وأهلهم وعلى ما أذكر كان عددهم أكثر من ثلاثين شاباً، ثم أخذوا من بقي منهم إلى المعتقلات، وكانت قبلها بعدة سنوات مجزرة الدوكمة على ضفاف بحيرة طبرية.. طبعاً مسلسل الرعب تكرر في عشرات القرى والمزارع الجولانية.
وطبعاً أبو ناصر الذي بدأ حديثه معنا حول ذكريات الأيام الأولى للاحتلال الإسرائيلي، يتحدث من حرقة قلبه ومن خوفه على الوطن من المؤامرات والمكائد التي تحاك ضده اليوم قائلاً: هذا الوطن غالٍ جداً بكل مافيه، ومشاهد القتل والدم التي يرتكبها المخربون اليوم أعادت إلى نفسي ذكريات مؤلمة، فقد تجاوزت اليوم السبعين من عمري لكن عاصفة الاحتلال، كسرت قلوبنا وبقيت آثارها ترافق تفاصيل حياتنا اليومية، نعم إن الاحتلال بشع بكل أشكاله، وشريعة إسرائيل هي القتل والتهجير واقتلاع الهوية والتخريب، وليس غريباً أن تكون هي المسؤولة الآن عما يحدث في بلادنا، فنحن لاننسى هذا الجلاد اليهودي الذي قتل المئات من شباب سورية على أرض الجولان السوري وطرد السكان ثم أحرق البيوت والقرى والمزارع، وصور الرجال المعلقين في الساحات، تركت في الحلق غصة كبيرة.. نعم غادرت القرية في ليلة سوداء كنت أخاف أن أنظر إلى الوراء وأرى قريتي تأكلها النيران، وتحولت من بيوت جميلة مشرعة للحب وللضيف والعمل إلى كتل من الرماد.
هناك تشاركنا العيش الطيب، وتنعمنا بعطاء الأرض ونسيم الكروم المنعش نعمل في أمور مختلفة
ويمضي النهار دون أن نشعر به «بين الزراعة هنا والسقاية هناك، جمع الحطب، قطاف الخضار، تأمين مستلزمات الزراعة والمواشي و.. الخ» ليأتي المساء وكأنه انتظار العاشق للمعشوق، وكل تعب النهار يمحوه السهر مع الأقارب والأصدقاء ببعض الأحاديث والحكايا الممتعة وفي نهاية الجلسة كنا نتشاور في العمل الزراعي وفي المستقبل وفي أمور تخص سكان القرية..وكان لكل فصل من فصول السنة اهتماماته..
بعض من حياتهم
وعندما سألت أبا ناصر عن أيام الأعياد كنوع من تلطيف الجو قال ضاحكاً نعم كان هناك في القرية عدد من أصحاب الدكاكين يتسابقون في شراء الراحة والحلاوة والقضامة والتمور وكل منهم يؤكد أن بضاعته هي الأفضل، فهذا أتى بها من الشام وذاك من العراق والآخر من اليمن مع أن جميعها مصدرها واحد.
وكان جميع رجال القرية وشبابها يعتمدون على خياط واحد طبعاً لم يكن هناك سواه في القرية، فكانوا ينتظرون دورهم بفارغ الصبر ومنهم من كان يعطيه القماش قبل شهر من قدوم العيد.
أما العيد بحد ذاته هو فرحة اللقاء والتواصل وهو ضحكة أطفال القرية الذين يفرحون بأشياء بسيطة جداً شبيهة ببساطة وتواضع أحوال الناس، حيث كان الجميع من طبقة اجتماعية واحدة ونادراً ماكان أحد السكان أغنى من الآخر، وربما نحن لم نكن نشعر بهذا الفرق بين غني أو فقير لأن التعامل بين الأهالي أساسه الطيبة والمحبة.
وينهي ابن الجولان الشيخ المسن حديثه بالعودة إلى تلك النكسة التي سرقت منه شبابه وذكرياته وسعادته، فقد توفيت زوجته وهي تحلم بالعودة إلى قريتها الجولانية وهاهو يروي كل يوم قصصاً عن الجولان وعن محبة الوطن لأولاده وأحفاده ويخاف أن يموت قبل أن يتحقق الحلم ويكحل عينيه بأرض الجولان المحتل.