أو تجاوز أزمة أو تطويق مأزق، عبر اختيار عبارات غامضة ملتبسة حمالة تفسيرات متعددة ومتباينة، بحيث يعتبر كل طرف معني أن مطالبه قد تحققت ، وأن شروطه قد روعيت- حتى بالنسبة لأطراف تدرك في أعماقها أن الأمر ليس كذلك ، وأنها سوف تخسر آخر الأمر أمام طرف أقوى ، لكنها تكسب شيئاً من الوقت أمام شعوبها لتطويعها وتجريعها الخسارة شيئاً فشيئاً ، جرعة في إثر جرعة ، بعد أن توهمها في البداية أنها حققت انجازاً وانتصاراً من خلال تفسير تلك العبارات الغامضة الملتبسة بما يرضي تلك الشعوب.
ومن الأمثلة ، التلاعب بصياغة أكثر قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصراع الناجم عن الغزو الصهيوني لفلسطين- المدعوم والمحمي من قبل الولايات المتحدة ودول أوروبية . هذا ماتجسده حقيقة أن ماتم فرض تنفيذه من تلك القرارات هو مايفيد ويدعم أغراض الغزاة ، بينما ظل معظم ماهو في مصلحة الضحايا - عرباً وفلسطينيين- مجرد حبر على ورق، بدءاً من القرار الظالم في عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين متقاربتي المساحة عربية ويهودية وهو ماانتهى إلى اغتصاب كل فلسطين والتفاوض حالياً على جعل نحو عشرة في المئة فقط من أرضها دولة عربية فلسطينية منزوعة السلاح تعيش ناقصة السيادة تحت هيمنة ورحمة الغزاة ، في مقابل تنازلات فلسطينية وعربية هائلة يجري ابتزازها ، مروراً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 194 للعام 1948 الداعي إلى عودة كل اللاجئين الفلسطينيين العرب بأسرع وقت إلى ديارهم وممتلكاتهم، وهو مارفض الغزاة تنفيذه منذ ذلك الحين بإصرار ، وأعلنت الإدارة الأميركية مؤخراً بعد مراوغة عقود تأييدها لذلك الرفض واسقاطها حق العودة ذاك ، وصولاً إلى قرار مجلس الأمن رقم 242 الداعي إلى انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967. يذكرنا هذا القرار بإحدى أكثر استخدامات الغموض «البناء» خبثاً وتدميراً، إذ تعمّد المندوب البريطاني في الأمم المتحدة آنذاك اللورد كارادون ، التواطؤ مع أبا ايبان وزير خارجية الكيان الصهيوني ، بتفاهم مع المندوب الأميركي ، لدى صياغة مشروع القرار الذي أخذ الرقم بعد اقراره، فأشار إلى دعوة للانسحاب الإسرائيلي من « أراض» احتلت في الحرب الأخيرة ، أي حرب حزيران 1967، بينما كان النص الفرنسي للقرار واضحاً في الدعوة إلى الانسحاب من « الأراضي» التي احتلت و إن تعمد اللورد كارادون حذف أداة التعرف الانكليزية (the) التي يفترض أن تسبق كلمة «أراض» قد سمحت للعدو الصهيوني أن يناور لاحقاً، فيصرّ على مكاسب اقليمية استناداً إلى قرار مجلس الأمن ذاك. هذا ماتبنته الادارة الأميركية الحالية عملياً، بعد مراوغة الادارات السابقة بالقول: « إن الأراضي التي يطالب بها العرب بانسحاب الإسرائيليين منها هي غنائم حرب كسبوها بجدارة في حزيران 1967 وليست أراض محتلة» !. وهكذا لعب الخبث والاستخدام الماكر لألفاظ ملتبسة دوراً تخريبياً في جر العرب إلى تنازلات هائلة متلاحقة ، ارتداداً عن حقوقهم وأهدافهم الاستراتيجية ، سعياً وراء سراب اصطنعه ذلك الخبث.
ولاتقتصر ممارسة الخداع المسمى غموضاً«بناء» على الدبلوماسية المشوهة والمفاوضات المفخخة في الغرف المغلقة، وإنما تشمل أيضاً التحكم الخبيث بالرأي العام.
كتب المفكر اليهودي الأميركي نعوم تشومسكي بهذا الصدد قائلاً: « إن السيطرة على عقول الناس من قبل الدولة في المجتمعات الأكثر تقدماً في الغرب تتم بفعالية وآليات أكثر حذقاً وتطوراً منها في المجتمعات الخاضعة لتسلط صاروخ واستبداد وقح. حيث إن فبركة الرأي العام والتوافق الشعبي صنعة ناجحة في المجتمعات الغربية تتولاها أجهزة محترفة في الدوائر الاستخباراتية والإعلامية ومؤسسات العلاقات العامة من أجل خدمة أهل الحكم ( باستخدام التضليل وتطويع الحقائق والعبارات الغامضة غالباً).
وكان شمعون بيريز رئيس حكومة الكيان الصهيوني ، وأحد أهم بناة المؤسسة العسكرية والبرنامج النووي الإسرائيلي ، قد عمل وزيراً للاعلام من قبل خمسة وثلاثين عاماً ، وقد شرح فلسفة الاعلام الصهيوني آنذاك فقال: « إن على إسرائيل أن تبيع - دون خجل- أفكارها ومبادئها مثلما تحاول تسويق أي سلعة أو تجارة.»
وعلى نهج بيريز ، بيّن ايلي ايل ، احد المسؤولين البارزين في وزارة الإعلام الصهيونية ، بدوره جوهر فلسفة العمل الإعلامي والسياسي الصهيوني فقال: «على الإعلام الصهيوني أن يعمد إلى الاختصار في اللغة. وإلى لغة الإبهام والغموض».
لعل في هذا مايسلط شعاع ضوء اضافياً على أسباب نجاح أعدائنا في استنفار تأييد هائل لباطلهم وعدوانهم في مواجهة حق لم نحسن الدفاع عنه،ورغم هذا يظل الباطل باطلاً ويظل الباطل زهوقاً آخر الأمر!