تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


من رواد حركة الحداثة.. صلاح عبد الصبور والقول الشعري

ثقافة
الأثنين 9-5-2011م
ممدوح السكاف

بعد عشر سنوات من صدور الديوان الأول لنازك الملائكة وعنوانه (عاشقة الليل) بدأ مخاض الجيل الثاني في حركة الشعر العربي الحديث يتحرك متمثلاً بولادة ديوان (الناس في بلادي) الصادر عام 1957 للشاعر المصري المجدد صلاح عبد الصبور،

وفيه يخوض الشاعر معاركه الإبداعية على جبهتين: جبهة المضمون حيث يعالج قضايا مصيرية تصف حياة الناس البسطاء الطيبين وتهمّهم، وتنأى عن موضوعات الشعر التقليدية التي كانت مسيطرة على حقبة الأربعينيات من القرن العشرين ما استطاعت، وعلى جبهة الشكل حيث نراه، يصوّر انفعالاته وأفكاره، على الطريقة الشعرية الحديثة التي كانت في بداياتها الأولى تتخذ سمة البساطة أداة تعبيرية لها يوم كتابة قصائد الديوان ثم صدوره مطبوعاً بعدئذ فتناولته أقلام نقاد وشعراء الشعر الجديد وأثار معركة لاهبة بين صاحب الديوان وبين بدر شاكر السياب خاصة تدور حول أخطاء عبد الصبور في الوزن ونقد الأول اللاذع لشعبية المضامين المعالجة في قصائد صلاح وسطحية تناولها.‏

ومن المتفق عليه لدى النقاد والدارسين أن عبد الصبور في مجموعته الشعرية المبكرة هذه حقق تقدمات نوعية ملحوظة في ميدان التجديد الشكلي لهذه الحركة، فقد استطاع أن ينجح في تطبيق نظرية الشاعر والناقد الإنكليزي (ت.س- إليوت) الذي دعا الشعراء إلى استعمال اللغة اليومية المبسطة في أشعارهم والكتابة بالأسلوب الواقعي القريب من حياة الناس العاديين ومستوى وعيهم ولكن بشكل فني، وهكذا آثر صلاح البعد عن التجنيحات الشعرية التي سادت أجواءه في مرحلة الرومانسية بعد الحرب العالمية الثانية في بقاع الوطن العربي والعكوف على هموم الحياة المعيشية للشعب والنهل من ثرائها وتنوعها وطرحها في شعره، كما تمكن عبد الصبور كذلك من التطور في بناء القصيدة، فابتعدت عن مهجرية نازك في الأوزان وتراثية السياب المحدثة في الأسلوب، ليكتب شعراً يصور الإيقاعات الداخلية النفسية لأعماقه وأعماق الجماهير العربية الحزينة المستلبة، متوازنة مع تفعيلات تطول وتقصر تبعاً لموجاتها وتعبيراً عنها، مع عدم اكتراث كبير في القافية والرويّ أو احتفاء بأصدائهما الموسيقية، ثم أحدث الشاعر العربي الكبير خليل حاوي في ديوانه الأول «نهر الرماد» الصادر عام 1957 حدثاً شعرياً بالغ الأهمية في مسار هذه الحركة فكتب قصيدته المجددة الخاصة به وبأسلوبه التراثي- الحضاري المرتبط بالجذور والمتجه إلى حداثة تختلف اختلافاً شبه كليّ عن سائر قصائد الرواد الأوائل، بما ينبض في أعماقه من توهج الرؤيا وزخم التجربة والقدرة على امتلاكه لصوته الخاص فكرياً وأسلوبياً.‏

ينشر صلاح بعد الصبور في العدد /59/ عام 1961 من مجلة (المجلة) المصرية المحتجبة مقالاً عنوانه (الشعر الجديد.. لماذا؟) يتعرض فيه إلى مصطلح (الشعر العربي الحديث) ويشير موضحاً إلى استعماله من قبل الدارسين في مواجهة مصطلح «الشعر العربي القديم» ويرى أن هذين المصطلحين قادا إلى مأزق المقارنة بين شعر الشعراء الحديثين وشعر الشعراء الأقدمين- في المعنى التاريخي (الزمني)- وصنعا أزمة متشنجة بين طريقتين أو أسلوبين في وعاء التعبير الشعري لكل منهما وفيما بداخله، ويعتقد صلاح أن كلمة «حديث» هي التي جرّت إلى خصومات شديدة الوطأة وسلبية الأثر تبادلها من ينظم قصيدته على الشكل السلفي التقليدي المتوارث ومن ينظم قصيدته على نمط التفعيلة الجديدة المستحدث وفات شاعرنا أن ينوه برأي بعض نقدته أن النوع الأول قد استنفد طاقاته وأدواته ولم يبقَ قادراً على أن يتعامل بروح العصر ومتغيرات الحاضر لأسباب متعددة لامجال لبسطها هنا، أما النوع الثاني فيختزن مقدرة جديدة ووسائل إيصالية تستطيع تجسيد أعماق النفس البشرية في حالة الوعي أو عدمه كما تتوغل إلى صميم الذات الفردية ضمن بنية جديدة ومكتنزة بالابتكار والابتداع.‏

وفي المقال نفسه يأخذ «مفهوم الشاعر» عند صلاح بُعداً حديثاً يجعل الشاعر ينصرف عن عملية الاستبطان الذاتي إلى حالة التأمل الفلسفي في الكون والحياة بحيث تتحول تجربته الشخصية لتصبح تجربة عقلية لها علاقة وطيدة بالفكر وبالقضايا المصيرية الإنسانية وتغدو مهتمة بالقيم والمواقف السلوكية في وجود الفرد والجماعة، إضافة إلى احتفالها بصيرورتها الشعرية المتطورة وتجليات تكوينها الوجداني المعاصر المتأثر بتراث أمته من جهة والمتواصل مع كثير من المفاهيم الغربية الحديثة من جهة أخرى.‏

ومن الجدير بالذكر أن عبد الصبور استخدم في مقاله هذا كله لفظة «الحديث» و«ليس الحداثة» إذ لاذكر للمصطلح الأخير عنده بتاتاً.‏

وفي هذه الموضع أستذكر أن الناقد الراحل الدكتور إحسان عباس كان أجرى حواراً مع الشاعر خليل حاوي في السادس من حزيران عام 1982 قبيل وفاة هذا الأخير بقليل ونشر في كتاب ضمّ أعمال ندوة (في قضايا الشعر العربي المعاصر: دراسات وشهادات) الصادر عام 1988 عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وطرح عليه من ضمن أسئلته السؤال التالي: (أشرت في أحاديثك السابقة إلى الرؤيا والتجربة والتعبير، فهل لك أن تشرح لنا كيف تتكامل وتتحد في عملية الخلق الشعري) وكان جواب الحاوي مايلي: (لستُ أجهل أن بعض دعاة المذاهب الشعرية يؤكد أن الشعر رؤيا وتعبير وحسب.. غير أني أيقنت بعد الممارسة الطويلة والتأمل الطويل أن الرؤيا التي لاتتولد عن تجربة كيانية تعانيها ذات الشاعر بكلية عناصرها معاناة للوجود على مستوى الواقع ومافوق الواقع ودونه لايصدر عنها غير إشراقات تتألق في فراغ، ولئن حاولت أن تبتني عالماً مثالياً متعالياً يفتقر إلى مافي الحياة من حيوية واكتناز، والآفة الكبرى في شعر الرؤيا المجردة أنه لايفض أسراراً ولايكشف عن مجاهل في واقع النفس والوجود، وربما استحال إلى مجموعة من الصور البراقة شبيهة بالألعاب النارية، ولا أغالي إذا قررت على سبيل الإيجاز أن شعر الرؤيا المجردة يكاد يكون طيراناً في فراغ).‏

أما التجربة فهي نقيض الرؤيا.. مادة ملبدة مغلفة يشترك في معانيها الناس جميعاً على مستويات متفاوتة من النضج والغنى، غير أن الشاعر وحده يستطيع بما لديه من رؤيا فريدة جلاء مضامينها التي قد تخفى على سواه ويتبع ذلك صفة أخرى يختص بها هي القدرة على التعبير، أي الإفصاح عن المضامين بصور وإيقاعات تتجسد في صياغات لغوية ذات إبداعية جديدة ومبتكرة.‏

m.alskaf@msn.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية