ويبدو أنّ الكيان الصهيونيّ الذي يحترم أصول الضيافة ويحتفي بها يصرّ على تقديم برهان أنه يراعي أصول الضيافة خير مراعاة، لذلك لم تتردّد قوات البحرية الإسرائيلية في إطلاق النار على سفينة ماليزية كانت تحمل مساعدات إلى قطاع (غزة) المصرّة على قهر الحصار المفروض عليها، وقد شاركها العالم الحرّ الشريف في قهره معرباً عن تحدّيه للإجرام الإسرائيليّ الذي فاق التصوّرات والتوقّعات كلّها.
لكنّ العالم تساءل بعد أن شاهد العدوان الإسرائيليّ الصارخ على هذه السفينة التي أرغمت على التراجع إلى المياه الإقليمية المصرية والدهشة مرسومة على وجهه إلى هذا الحدّ وصل الحقد الهمجيّ الصهيونيّ على غزّة وعلى أبناء الشعب الفلسطينيّ، ولم تخامر ذرّة شكّ قلب العالم ولا سيّما بعد أن عرف أنّ هذه السفينة، كانت تحمل أنابيب بلاستيكية لإصلاح قنوات الصرف الصحي في القطاع،وكانت تهمّ بالرسوّ في ميناء غزة قبل أن تعترضها سفن البحرية الإسرائيلية، وعلى متنها اثنا عشر شخصاً، بينهم صحافيون وناشطون، مع الإشارة إلى أنّ قوارب البحرية المصرية كانت قد رافقتها إلى ميناء العريش بعد إخضاعها للتفتيش لمعرفة ما إذا كانت تحمل مواد ممنوعة، وتبيّن أنها لم تكن تحمل مثل هذه المواد.
وقد استثمرت متحدثة عسكرية إسرائيلية حادثة منع السفينة الماليزية، التي كانت مبحرة باتجاه غزة، من الرسوّ في ميناء غزة، لتستعرض عضلات القوّات البحريّة الإسرائيليّة ذات الباع الطويل العريض في القرصنة والاعتداء على السفن المدنيّة ، مذكّرة أنّ هذه القوّات لم تعتمد على عنصر المباغتة في ثني السفينة عن مهمّتها إذ إنها بادرت بإطلاق ((عيارات تحذيرية) لم تستجب لها، فما كان من القوّات الإسرائيليّة إلاّ أن أنزلت بها ذلك ( العقاب) الذي تستحقّه وفق المنطق الإسرائيليّ الأعوج.
وتساءل العالم مستغرباً لماذا اكتفت البحريّة الإسرائيليّة بإطلاق عيارات تحذيرية ولم تعمل على قتل كلّ من كان في السفينة، وهي التي لوّثت أصابعها المجرمة بدماء شهداء أسطول الحريّة الذي جاء لكسر الحصار عن غزّة في شهر أيّار من عام 2010 ولقي يومئذٍ تسعة من الذين كانوا على متنه حتفهم بنيران البحريّة الإسرائيليّة؟!.
ربّما أراد الكيان الصهيونيّ من هذه الحادثة إقناع العالم مثلاً أن الشهداء العرب السوريين الذين خضّبوا أرض الجولان بدمائهم الزكيّة الطاهرة يوم الخامس عشر من أيّار ذكرى النكبة؛ قد سقطوا أيضاً بعبارات تحذيريّة لأنّ قلوب الجنود الصهاينة الذين شاهدوا هدير الأحرار في الجولان و( مارون الراس) و( العريش) قلوب رقيقة لا تتحمّل مشاهد الدماء وهي تسيل على الأرض، لذلك لا تطاوعها أناملها في الضغط على الزناد خشية قتل هؤلاء الأبرياء، وإذا عصت الأنامل الأوامر وانطلق الرصاص الحيّ فإنّ هؤلاء الجنود يستدركون الخطأ فيحرفون فوّهات البنادق عن الصدور والرؤوس ويوجّهونها إلى الأقدام لأنهم لا يريدون إزهاق الأرواح البريئة!!.
كذب مفضوح مارسه الكيان الصهيونيّ ليبرّر به ما ارتكبه من جرائم بحقّ أولئك المناضلين الشرفاء من العرب السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والمصريين الذين هدروا هدير البحر الثائر، واندفعوا زرافات ووحداناً يتحدّون الأسلاك الشائكة ويعلنون بصوت واحد أنّ الحناجر أنشدتْ نشيد العودة، وأنّ ذكرى النكبة ستكون حافزاً لتحدّي الجبروت الإسرائيليّ، وأنّ الهمم والعزائم ستبقى مشتعلة وستكون وقود الانتصار القريب.
صورة جديدة فرضت إيقاع حركتها الجبّارة على المشهد السياسيّ في المنطقة، وأوقعت الكيان الصهيونيّ في إرباك واضطراب، فراح يكيل التهم محمّلاً سورية مسؤوليّة ما جرى في ( مجدل شمس) متّهماً إيّاها بتسهيل عبور الثائرين وزحفهم إلى ما تعدّه ( إسرائيل) أرضاً إسرائيليّة، وهي تهمة تعلّقها سورية وسام فخار على صدرها.
وفطنت (واشنطن) التي تخاف على ( إسرائيل) ويقضّ القلق الإسرائيليّ مضجعها؛ إلى حجم الأنين المتصاعد من الصدر الإسرائيليّ، فعزفت على وتر تحميل سورية المسؤوليّة، فأضفت على الوسام المعلّق على صدر سورية مزيداً من الألق والرونق.
جموع بشرية هادرة لم يقف الجبروت الإسرائيليّ عائقاً أمام اندفاعها العفويّ، ذلك الاندفاع الذي عكس حقيقة تقلق الكيان الصهيونيّ وتحرمه الشعور بالسكينة، تلك الحقيقة التي تقول إنّ القضيّة الفلسطينية حيّة في صدر كلّ مواطن عربيّ شريف، ولن تموت، وشجرة الإصرار على العودة امتدّت بعد ثلاثة وستيّن عاماً من النكبة باسقة الأفنان راسخة الجذور، لأنها كلمة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين، وهذا الأكل هو النصر القريب الذي سيصنعه العرب الأحرار الذين لن يتخلّوا عن فلسطين، ولن يتنازلوا عن شبر محتلّ من الأرض العربية التي خلِقت حرّة ولن تكون إلاّ حرّة.