فقد تمادت الولايات المتحدة عقب تفكك الاتحاد السوفييتي في محاصرة روسيا ومنعها من تحقيق مصالحها داخل البلاد وخارجها. فقد أدرجتها سابقاً في لائحة الدول الخطرة على الولايات المتحدة, فأقفلت أوروبا الشرقية في وجهها وضيقت على مصالحها في أسواقها, كما عرقلت نفوذها في بحر البلطيق, وهي تواصل محاولة تطويقها بتوسيع نطاق الدرع الصاروخية الأميركية في بولونيا وتشكيكيا.
لكن جاء خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ الأمني في العاشر من شباط والذي تضمن هجوماً حاداً على السياسات الأميركية متضمناً ملامح الرد الروسي على تلك المخططات الأميركية وبطبيعة الحال فقد تتالت ردود الأفعال الروسية والعالمية على هذا الخطاب غير المسبوق بطابعه العنيف والصريح والمباشر وإذا كانت واشنطن سارعت لاتهام موسكو باستحضار أجواء الحرب الباردة, لكنها وعندما لم ينفعها تجاهلها حيناً وتحايلها أحياناً أخرى لتجنب المواجهة, مع إصرار روسيا على رفض الدروع الأميركية الصاروخية, وتهديدها وعلى لسان أكثر من مسؤول روسي بالرد عليه بالشكل المناسب, عند ذلك اضطرت واشنطن لإطلاق تصريحات( تطمئن) موسكو وتسترضيها, ففي برلين أكدت كوندوليزا رايس أن الدروع الصاروخية هدفها الرد على تهديدات مرتبطة بإطار مابعد هجمات أيلول على حد قولها, كما أرسلت مستشار بوش للشؤون الأمنية ستيفن هادلي في مهمة طارئة إلى موسكو للتهدئة, كما حاولت الايحاء أن نشر المنظومة الصاروخية في أوروبا قد توقف حالياً, خاصة وأن موسكو هددت تشيكيا وبولونيا بتوجيه الصواريخ الروسية إليهما إذا وافقتا على نشر أنظمة أميركية مضادة للصواريخ على أراضيها, وبالتالي فإن الصواريخ الاستراتيجية الروسية ستجعل هذه المنشآت الأميركية أهدافاً لها وستكون قادرة على تدميرها.
إن المخططات الأميركية تجاه روسيا لم يعد بإمكان موسكو التغاضي عنها أوالسكوت عليها, خاصة وأن الدور الروسي المتنامي على الساحة الدولية لايمكن إغفاله, فقد نهضت روسيا من كبوتها وهي في عهد بوتين تختلف تماماً عنها في عهد بوريس يلتسين المريض والطائش. فبعد معاناة طويلة وصلت فيه البلاد إلى الحضيض, بدءاً بانهيارها مالياً وتراجع التنمية فيها وتنامي الفقر والجرائم وسيطرة المافيات المالية والإجرامية عليها لردح من الزمن! وبالتالي تراجع مكانتها الدولية وانحدارها المروع, فبعد هذه المعاناة الطويلة, جاء بوتين مع إطلالة القرن الحادي والعشرين ليحمل آلام وآمال الشعب الروسي بالفعل نجح مع القيادة الجديدية في تحقيق معدلات نمو للاقتصاد بلغت أكثر من 6% كمعدل عام منذ سنة 2003 وحتى اليوم, كما ارتفع دخل الفرد وتحقق فائض في الميزان التجاري وتخلصت البلاد من الديون الخارجية التي ورثتها من الحقبة السوفيتيه. وفي ميدان الطاقة غدت ثاني أكبر منتج للنفط وأول منتج للغاز الطبيعي عالمياً. وهذا يعني دورها الدولي الكبير في استقرار وتوازن سوق الطاقة العالمي. وإذا أضفنا إلى ذلك مكانة روسيا كقوة نووية بارزة توقع مع الولايات المتحدة على اتفاقات استراتيجية ثنائية للحد من السلاح النووي وهي بطبيعة الحال الدولة الوحيدة في العالم التي تملك القدرة لتوقيع مثل هذه المعاهدات مع الولايات المتحدة. ولا ننسى طبعاً عضويتها في مجلس الأمن وتأثيرها ونفوذها الجغرافي والسياسي بحكم موقعها في قارتين, وبالتالي حضورها العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي أيضاً في أوروبا وآسيا, والذي يبرز من خلال عضويتها في مجموعة الثماني الصناعيةالكبرى, وشراكاتها الاقتصادية مع الصين والهند ودول الاتحاد الأوروبي ناهيك عن تعاونها المتنامي مع دول في الشرق الأوسط مثل سورية وإيران وتطلعها إلى تعاون أوثق مؤخراً مع دول مثل السعودية.
إن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس بعد أن نفضت عن كاهلها غبار السنوات ا لسابقة وهي تتطلع للعب دور أكبر في السياسية الدولية بحكم مكانتها الجغرافية والسياسية وكذلك الاقتصادية والعسكرية.
إن رد فعل موسكو القوي إزاء المخططات الأميركية لم يأت من فراغ, وهي تؤكد على لسان مسؤوليها أنها سترد بالصورة المطلوبة وباتزان على الأخطارالتي تهدد أمنها القومي دون أن تسمح باستدراجها وتوريطها في مجابهة جديدة, في سباق جديد للتسلح. كما جاء على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف.
وتبرز ملامح السياسة الخارجية لموسكو من خلال إدانتها القوية لإصرار واشنطن على التمسك بالقطبية الأحادية ما يعني خرق القانون الدولي باستمرار كما حدث في غزو العراق, ويساعد بالتالي بل يشجع على سباق تسلح جديد وهذه المرة في الفضاء الخارجي جراء تعنت الإدارة الأميركية وتمسكها بأوهامها الامبراطورية. وبالتالي فإن روسيا اليوم لايمكنها أن تقف متفرجة على المغامرين من المحافظين الجدد الذين يضربون عرض الحائط بمصالح الدول الأخرى ويغامرون بالأمن العالمي ويدفعون نحو المواجهة, ويسعون كي يدفع الآخرون الفاتورة الباهظة لطيشهم وأنانيتهم.
الموقف الروسي الأخير في ميونيخ وماتبعه من تصريحات ومواقف يعكس بداية تحولاً في موازين القوى الدولية وهو يؤكد أيضاً أن صبر موسكو بدأ ينفد. ودعوة روسيا لاستخلاص العبر من الحرب الباردة ورؤية القضايا العالمية وايجاد الحلول لها دون تحيز وأخذ مصالح الأطراف كافة بنظر الاعتبار. وهذا ماعبر عنه بوتين يوضوح وصرامة في ميونيخ داعياً إلى اللعب ضمن القواعد المتعارف عليها من خلال تسمية الأشياء بمسمياتها رافضاً في الوقت نفسه القواعد المفروضة من قبل واشنطن. إن روسيا بحكم موقعها في الشرق والغرب (آسيا وأوروبا) وبفضل تعدديتها وتفاعل ثقافتها, غير معنية ( بصراع الحضارات) وهي بطبيعتها منفتحة على العالم, ولا ننسى أنها ومنذ سنوات تطالب بالانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
وعلى عكس السياسات الأميركية الحالية والمعروفة بعنفها وانحيازها اللافت ضد القضايا العربية بدءاً من فلسطين وانتهاء بالعراق, فإن روسيا تلعب أدواراً ايجابية متنامية, ولايخفى أنه يجب علينا مساعدتها لتطوير مواقفها والسبل كثيرة والفرص متوافرة.