تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مازال الشرق بائع حكايات.. حزينة هذه المرة

ثقافة
الخميس 13-3-2014
سوزان إبراهيم

مرمياً على أطراف السحر والغموض.. مختالاً بحريرٍ وسجاد يدوي.. متعالقاً مع عطور معتقة برائحة الحنين والشوق.. متروكاً على وسائد الشمس كأمكنة للهجرة نحو حرارة القلب, وحدة البهارات..

وجمال الأنوثة. هي ذي بعض من ملامح الشرق, ليس فقط كما نراه, بل كما رآه الغربيون والمستشرقون القادمون من بلاد الجمود.. والبرد.. بحثاً عن أزمنة ضائعة.. وأسرار لم تعطِ مفاتيحها إلا لأهله.‏

أدباء وفنانون كثر ترك الشرق بصمته واضحة على نتاجاتهم.. وربما سلوكهم.. لم ينج من سحر «ألف ليلة وليلة» إلا قلة منهم.. ومن منا لا يتذكر «الليدي جين ديغبي» التي قطعت مسافة طويلة من بريطانيا وصولاً إلى البادية بين حمص ودمشق عام 1852، وقد سار شيخ بدوي شاب «مجول المصرب» حارساً لموكبها مع جماعة من قبيلته، يحمونها من قطّاع الطرق، فإذا بها تعشق البدوي الشجاع وتختاره شريك قلب وحياة, وتختار الشرق موطناً أبدياً.‏

مازال الشرق يمارس سحره على أدباء الغرب, ولعل آخرهم البولندي «ستانيسواف ستراسبورغر» الذي يتنقل بين بيروت ووارسو ويعمل في التبادل الثقافي والاجتماعي.‏

كقطعة من حلم, مازال الحكواتي واحداً من شخصيات الشرق الأكثر تأثيراً على ما يبدو, وها هو «ستراسبورغر» يمارس طقوس الحكواتي عبر روايته «بائع الحكايات» الصادرة بترجمة إلى اللغة العربية مؤخراً عن دار الآداب, حيث يسرد فيها قصص عشقه في البلدان العربية.‏

تتحدث الرواية عن مهندس غربي أوروبي يذهب إلى سورية ضمن فريق تقني للتنقيب عن الغاز في صحراء دير الزور في شرق سورية. لكنه يقع في غرام هذا البلد منذ زيارته الأولى, فيترك عمله في مجال التنقيب عن الغاز ويبقى فيه. وقد ساعده على ذلك أيضاً أنه يمتلك المال. وبما أنه يهوى الثقافة والمجتمع فقد أصبح حكواتياً يروي ما حدث له من قصص وحكايات. تدور أحداث الرواية في كل من دمشق وحلب والعقبة.‏

عن روايته قال «ستراسبورغر»: «الرواية مقسمة إلى فصول وفيها لعبة أدبية. وفي قمة هذه اللعبة الأدبية يلتقي شاعران كبيران هما: الشاعر الغربي المسيحي دانتي بنصوص كتابه «الكوميديا الإلهية» وأيضا الشاعر الشرقي المسلم أبو العلاء المعري بنصوص كتابه «رسالة الغفران». ويتنافسان في حضور جمهور ولجنة تحكيم كما في برامج «التوك شو» التلفزيونية. إنها مبارزة بين الشاعرين الكبيرين حول الفردوس».‏

لابد هنا من المرور بهذه المقارنة بين شاعرين شكّلا علامة فارقة في تاريخ الأدب الإنساني, فدراسات كثيرة جرت للمقارنة بين كوميديا دانتي الإلهية ورسالة غفران المعري ومدى تأثير المعري في دانتي. وقد ذهب بعض الدارسين إلى القول بأن المعري في رسالة الغفران مفكِّر، وخيالُه واقع تحت سلطان التفكير الحر، بينما كان خيال دانتي ذاتياً، وصوفياً مدرسياً. وأن دانتي لا ينتمي إلى عالم الفكر، بل إلى عالم التصوف المدرسي الذي فرضته عليه بيئة القرون الوسطى.‏

حسنٌ.. فما الذي جرى للشرق ليصبح الفكر الحر من منسياته, ويصبح الفكر المدرسي القادم من بيئة القرون الوسطى حاكماً بيننا وعلينا؟ كيف انقلبت الأوضاع وتبادل أحفاد المعري وأحفاد دانتي المواقع؟‏

ما الذي سيرويه «ستراسبورغر» أو أي كاتب غربي عن سورية حالياً؟ بل عن الشرق المشتعل حيث النيران تحصد سحر ذاك الشرق وتحيله رماداً!‏

أي انتقام.. أي لعنةٍ جاءت لتحيل الجمال وبأيدينا إلى بقايا محترقة؟‏

هل ستتعرف أي «»جين ديغبي» جديدة على هذا الشرق لو مرت به؟ هل ستتمكن من السير في البادية بين حمص ودمشق؟‏

أي نسلٍ هذا الذي طلع من مغارات العفن والظلام, ليدعي أنه «علي بابا» وقد جاء يفتح أعمارنا «بسمسمه» القاتل؟‏

ماذا سيروي حكواتي النوفرة بعد مئة عام لأحفادنا عن سير «العنتريات» التي تودي بالسوريين إلى المقابر وفيافي الحزن! هل سيروي لهم عن المجازر والبشاعات والتهجير واليتم والفقدان والدمع المتدليةِ أشجاره كما صفصاف بردى!‏

بلى.. سيحوك الجميع حكايات عن هذا الشرق.. عنا.. عن سير أبطال حقيقيين.. وأبطال من ورق.. فالحكايات لا تصاب بالعقم أبداً حتى لو أُحرقت أرضٌ كانت وما زالت مسقط رأس شهرزاد!‏

بلى.. سيحفر الحزن أخاديده.. لكننا سنكتب أن الأرض طلعت من رماد نفسها, كما فينيق السوريين, وأنبتت ياسميناً آبد العبق.. سنكتب أن ألف شهرزاد تولد كل يوم, وأننا مازلنا ندفع عن أنفسنا القتل كل يوم بحكاية جديدة.‏

بلى.. سنكتب أن شهرزاد السورية مازالت تتقن الحكاية وسيلة للدفاع عن النفس مقابل سيف مسرور الفتاك.. شهرزاد الطالعة من فسيفساء سورية, وموزاييك دمشق.. والعابقة بقوافل طريق الحرير التي لطالما حملت الجمال إلى أقاصي الأرض.‏

لم يكن الحزن زائراً طارئاً على هذا الشرق- حسب التاريخ- فكثيراً ما عاش أهله لعنة الغزو والتقتيل, كما كان دوماً حاضنة للهاربين من سيوف ألف مسرورٍ قابع على حدود الطمع والطموح باجتياح واستباحة.. لم يكن الحزن طارئاً.. لكنه لم يكن يوماً قاتلاً.. بل لطالما لملم السوريون- درة الشرق- أطراف عباءة الحزن وأودعوها ذمة التاريخ, منطلقين بخضرة أينع, وموزاييك أروع.. متلاقحين متفاعلين مع كل قادم للعيش بينهم كأهل بلد وبناة حاضر.‏

suzan_ib@yahoo.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية