وإذا كان لنا أن نحدّد مصدر الحاجة الأمريكية إلى امتلاك مثل هذا القرار المستقل فمن المؤكد أن هناك طرفاً واحداً في هذا العالم هو الذي يؤثر على استقلالية هذا القرار بشكل لا يتصف بالموضوعية . وهذا الطرف هو المُرَكب اليهودي الصهيوني الإسرائيلي الذي يستغل نفوذه في واشنطن , ويسعى بشكل مستمر إلى إخضاع القرار الأميركي للمصلحة الصهيونية , حتى أن المصالح الأمريكية - وخاصة في الشرق الأوسط - باتت مهدّدةً بشكل فعلي بسبب إخضاع القرار الأميركي للإرادة الصهيونية .
لم يكن الأمريكيون , من وجهة نظر المصالح الأمريكية بالذات , بحاجة إلى شنّ الحرب على العراق . ولم يكونوا من وجهة نظر هذه المصالح بحاجة إلى هزّ أو قلب الأنظمة السياسية في مصر وليبيا وتونس , كما لم يكونوا بحاجة الى استهداف سورية بالحرب غير المباشرة التي جرت محاولة تحويلها أخيراً إلى حرب مباشرة. كما أنه لم يكن من مصلحتهم أن يعمّقوا القطيعة مع إيران ويواصلوها سواء بذريعة موقف إيران من الكيان الصهيوني أو بذريعة ملفها النووي بدلاً من إعادة بناء هذه العلاقة على قاعدة الاحترام المتبادل .
وإذا كان الأمريكي لا يتكلم عن المصالح الأمريكية في المنطقة إلا ويقرنها بما يسمّيه الالتزام بأمن إسرائيل , فإن هذا ينهض كدليل على عدم استقلالية القرار الأميركي , خاصة وأن « أمن إسرائيل « كما يمكن أن يفهمه المواطن الأميركي العادي يختلف يقيناً عن مفهوم « أمن إسرائيل « عند اليهود الصهاينة . كما أنّ دولة كبرى وقويّة مثل الولايات المتحدة يفترض أن تعتني بأمن العالم بأسره وليس بأمن إسرائيل حصراً دون أمن العالم , وإلا فإنها تصغّر من شأن نفسها . وحين يتحوّل الالتزام بأمن إسرائيل إلى زعزعة لأمن جميع دول الشرق الأوسط ونشر الفوضى والإرهاب فيه من أجل أن تتمتع إسرائيل وحدها بالأمان الافتراضي وبالسيطرة على الآخرين من حولها , فهذا يعني أن أميركا توظف نفسها وقوتها في خدمة إسرائيل , وتسهم في تدمير الأمن العالمي بما في ذلك أمن الأمريكيين أنفسهم بدعوى أن ذلك ضروري للمحافظة على « أمن إسرائيل » .
لقد هَرَعَ نتنياهو إلى واشنطن بعد استماعه لخطاب أوباما الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة , ليحاول التأثير على القرار السياسي الأمريكي كما تبلورت ملامحه في ذلك الخطاب , وعلى توجّه أوباما للتواصل مع الرئيس الإيراني . أي أن نتنياهو ذهب إلى واشنطن ليحاول مصادرة القرار السياسي الأميركي لمصلحة إسرائيل , وتجريد هذا القرار من استقلاليته . وعلى الأمريكيين الآن أن يحدّدوا ما إذا كان من اللائق لدولة مثل الولايات المتحدة ألا تمتلك قرارها السياسي المستقل بعيداً عن الضغط اليهودي الصهيوني الاسرائيلي , وأن تقبل بإخضاع هذا القرار دائماً وأبداً لأهواء الصهاينة حتى وإن أدى ذلك بالمحصلة إلى إلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية .
لقد آن للأمريكيين أن يقرّروا بأن « إسرائيل « يمكن أن تعتبر مستعمرة أمريكية إذا أراد الإسرائيليون ذلك , لكنّ أميركا لا يُعقلُ أن تتحوّل إلى مستعمرة إسرائيلية كما هو حاصلٌ بالفعل من خلال مصادرة استقلالية القرار السياسي الأميركي . وآن لهم أن يقرروا أن أميركا شيء وأن إسرائيل شيء آخر , وأن ربط مصالح أميركا بأهواء إسرائيل فيه مصادرة لحرية الأمريكيين وحقوقهم الأساسية من خلال مصادرة القرار السياسي الأميركي المستقل , أو الذي يفترض المنطق أن يكون مستقلاً .
لقد صُدِمَ الصهاينة أولاً بتخلي أوباما عن فكرة توجيه ضربة عسكرية لسورية كما كانوا يرغبون , وتوافقه مع بوتين على عقد مؤتمر جنيف . وصدموا ثانياً بفتح خط الاتصال بين الرئيسين الأميركي والإيراني بما يمهّد الطريق لتطبيع العلاقات بين أميركا وإيران . وخطورة هاتين الصدمتين في نظر الصهاينة أنهما مؤشران على بداية فشل المخطط الصهيوني لإغراق الشرق الأوسط في الفوضى تمهيداً لاجتياحه من قبلهم .
ولعل خروج نتنياهو ليزعم بأن إسرائيل مستعدة لمهاجمة إيران منفردة في محاولة يائسة لابتزاز أميركا يدلل على أن أوباما قد خيّب ظنه , وأن المسافة الفاصلة الآن بين القرار الأميركي الجاد وبين « الدلع » الصهيوني المعتاد باتت مسافة كبيرة لا يمكن ردمها ببساطة . فكلمة « حرب « والتهديد بها لم تعد لعبة يمكن التلويح بها في عالم باتت ملامحه وتوازناته مختلفة عمّا كانت عليه منذ وقت قريب .
لقد تظاهر الصهاينة في الماضي بالتماهي مع الاستراتيجية الأمريكية العالمية والانخراط في خدمتها , ولكن لاستغلالها في خدمة مخططهم الخاص . ولم تكن أهدافهم تتطابق بالضرورة مع الأهداف الأمريكية . لكن هذا الاستغلال بات مكلفاً كثيراً الآن , حتى بحساب القدرة الاقتصادية الأمريكية , وعلى الصهاينة أن يدركوا هذه الحقيقة حتى لا يورّطوا أنفسهم بينما هم يحاولون توريط أميركا .
إن الصهيوني الطامع بالسيطرة على العالم من خلال السيطرة على أمريكا , والساعي لإقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل على أنقاض العرب , لا يهمّه أن يدمّر العالم - بما في ذلك أمريكا نفسها - من أجل أن يبقى هو وأن يحقق أطماعه كما تزيّنُ له شياطينه . لكننا نفترضُ بأن صانع القرار في واشنطن - ومهما كان حجم الحَوَل الصهيوني المؤثر عليه - لا بدّ وأن يوازن بين المصلحة الأمريكية وبين الأهواء الصهيونية لكي يكون بوسعه أن يقدّم لشعبه تفسيراً لسياسته الخارجية.
لقد واجهت الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة مجموعة من التطورات التي تفرض عليها إعادة النظر في سياساتها تجاه المنطقة , وأهمها :
- فشل الحرب غير المباشرة التي شنتها مع « ائتلاف الثمانين « على سورية, والمخاطر الكبيرة التي انطوت عليها فكرة تحويلها إلى حرب مباشرة .
- انهيار المخطط المرسوم للتحكم في مستقبل مصر حين خرج الشعب المصري عن بكرة أبيه ليسقط حكم الإخوان .
- المخاطر التي تواجهها الأنظمة الموالية لأمريكا , ومن بينها النظام الحاكم في تركيا .
- نموّ الإرهاب في المنطقة إلى مستوى بات يهدّد الأمن العالمي ولا يتوقف عند حدود المنطقة .
- اكتشاف الإدارة الأمريكية أن لعبة « الشعبوية التعشيبية « التي أسميت بالربيع العربي , بعد أن اقترنت بتصنيع الإرهابيين وزرعهم واستثمارهم في إثارة الفوضى قد تخدم المخطط الصهيوني في التوسع ولكنها لن تخدم المصالح الأمريكية , خاصة بعد أن فهمت الجماهير الشعبية سرّ هذه اللعبة وحوّلتها إلى ورقة قوة هائلة في يدها .
من المؤكد أن العقل الصهيوني الغارق في أحلامه يصعب عليه القبول بسياسة أمريكية تعتمد قرارات أميركية مستقلة قائمة على فهم واقعي للتوازنات الدولية وكون سورية وإيران عصيتين على الأخذ , وكون مصر تعود إلى نهجها القومي من جديد . كما أن العقل الصهيوني الحالم الذي يرى نمو الإرهاب السلفي وقدرته على توظيفه في خدمته لا يريد أن يرى بالمقابل نهضة قومية عربية , وصحوة إسلامية , تكون قادرة على تطويق الإرهاب , وتحقيق انبعاث الأمتين العربية والإسلامية .
وإذا كان نتنياهو قد أعلن عن خطة للتأثير الإعلامي على القرار السياسي الأميركي تحتاج إلى ثلاثة أشهر من الضغط الإعلامي المكثف في أمريكا , فإن حكام الخليج الأعراب ظنوا أن ضالتهم تتمثل في أن يلوذوا بإسرائيل لتعينهم في وجه القرار السياسي الأميركي , حتى أن من بينهم من توجه إلى تل أبيب على جناح السرعة لتدارس ما يمكن عمله للتأثير على القرار الأميركي , وكأننا أمام تشكيل لوبي إسرائيلي - خليجي غايته مصادرة استقلالية القرار الأميركي !! .
تُرى هل نحن أمام تفلت إسرائيلي خليجي أم أننا أمام مشكلة مؤدّاها وجود أطراف في أمريكا نفسها وجّهت إلى العملاء بالتصرف على نحو معين بهدف التأثير على القرار الأميركي ؟ . وهل للمأزق الذي واجهه أوباما في الكونغرس والمخاطر التي يمكن أن تترتب عليه صلة بالضغوط بحيث يتم إخضاع الميزانية والاقتصاد لمنطق الضغط من أجل مصادرة القرار السياسي بما يخدم الصهاينة وحدهم في نهاية المطاف ؟ .