الحياة البوهيمية.. طريقة عيش.. يزعمون أنها ضرورة لوجود إبداعهم.. بوصفها الحاضنة الأكثر ملاءمة لتجود قرائحهم.
في رحم الشوارع.. سفراً و تجوالاً.. أمضوا الكثير من سنوات العمر.. و كأنما هوس التنقل و الترحال.. شغف التجديد و فتك حدود كل ضابط مقيد، يحول بينهم و بين تفعيل رغباتهم، كان الفتيل الذي يشعل شرارة إبداعهم.. يوقظ حواسهم إلى أقصى مدى.
حيوات الكثير من الأدباء المبدعين.. تمتلئ بحس مغامرة.. يفاجئك.. و ليس الأمر وقفاً على (المغامرة) بمقاييسهم.. إنما الامتلاء (بجنون) حياة لاتقليدية.
هي إذاً الحياة المجنونة التي اختاروا.. حياة منفلتة من كل قيد و شرط..
فهل مارسوا (الحياة) أكثر.. تمرّسوا بها و عبرها.. أم مارسوا (الأدب) حياةً.. أم أن حياتهم كانت إبداعاً أدبياً.. ؟
كيف وازنوا.. توءموا بين هذه وتلك.. ؟
بالمعنى الحرفي لحياة الطريق التي عاشها بعضهم، يبرز الكاتب الأميركي جاك كيرواك، المعروف عنه أنه كتب أهم رواياته (في مهب الطريق) و هو يحيا في أحد شوارع مانهاتن. و كيرواك يحسب على نوع أدبي عُرف، عموماً، بأدب الطرقات.
و السؤال..
هل هناك أخلاقيات خاصة تفرضها حياة الطرقات تلك.. و كيف الحال بمن كانت لديه تلك الأخلاقيات، صوّرها أدباً، لكنه لم يحياها واقعاً.. ؟
بمعنى.. كانت العربدة مسلكاً و سبيلاً.. لحلول ساعة الإبداع.. لكنها لم تكن لتتمثل حصراً في العيش على الطرقات، كما عاش كيرواك.
الحياة على هوى ملذّاتهم.. نقطة لقاء تجمع مابين أدباء كثر.. حياة فيها الغرائبي الأسطوري يأتي ممزوجاً بالواقعي المعاش.. و يبرز منهم: آرثر رامبو، و جان جينيه.
شاعر ملعون..هكذا وصفه بول فيرلين، الذي ربطته به علاقة شاذة في عمر المراهقة. قال عنه: (إنه شاعر ملعون، واحد من الشعراء الملعونين، لكن الغريب في أمره أنه هو الذي يلعن نفسه و لا ينتظر الأمر من الآخرين).
البعض وصفه ب (وحش من نقاء)، أما بروتون فكان يرى فيه (العبقري الذي يجسد جيل الشباب).. بدوره هنري ميلر ذكر بخصوصه (أنه يجسد صورة الإنسان العاصي) و آخرون وصفوه (بالأزعر الرائع).
المفاجئ.. أن زوبعة الأوصاف تلك كانت اعتماداً على ما جاء في سيرة حياته و هو لم يزل في عمر العشرين..
فأي شاعر أزعر.. عبقري.. ملعون و عاصٍ.. كان ذلك (الرامبو).. ؟
ولد الشاعر في العشرين من تشرين الأول عام 1854م في شارلويل. عام 1870م اندلعت الحرب بين فرنسا و بروسيا فخرج رامبو باتجاه بلجيكا. التقى فيرلين و عاش معه حياة شاذة عرفت في الوسط الثقافي، سافر الاثنان إلى انكلترا.. فكتبا و أبدعا و كانت هذه الفترة من حياتيهما من أغزر المراحل.
من مؤلفات رامبو المشهورة في تلك الحقبة كان كتاب (الإشراقات).
انتهت علاقته مع فيرلين بأن أطلق عليه هذا الأخير النار.. لكن الإصابة كانت بسيطة. وضعت هذه الحادثة حداً للحياة البوهيمية التي عاشها الشاعر و على ما يبدو كانت خاتمة لإبداعه الشعري.
بعدها.. بدأ رامبو نوعاً آخر من العيش متنقلاً مابين هولندا، ايطاليا، السويد، الدانمارك، أفريقيا، و قبرص.
نسي أو تناسى رامبو الشعر في الجزء الثاني من حياته الذي مارس فيه العمل التجاري.. و نعت قصائده بالخربشات.. و كيفما كانت حياة الشاعر يبقى المؤكد أنه أثار تساؤلات كثيرة بما كتب شعراً و بما خطّ مسلكاً حياتياً.. هو الذي لم تدم فترة الإبدع لديه أكثر من أربع أو خمس سنوات، في عقده الثاني قبل عمر العشرين.
سوف أكون لصّاً..
في دار للقطاء ترعرع جان جينيه المولود في كانون الأول سنة 1910م.
تأثر تأثراً عميقاً بالكاتب المنحرف (جوهاندو) الذي التقاه خلال سجنه، و كان يقول له: إن السجن ليس سجناً، بل هو المهرب و الحرية..
جوهاندو أطلق نصيحته لزميل السجن (جينيه) الذي عبّر غير مرّة عن رغبته في الإقلاع عن السرقة و الاكتفاء بالكتابة، قائلاً (يا صديقي، إنه من المؤكد أنك تمتلك نوعاً من الموهبة في الكتابة، لكن لا تحاول احترافها و إلا أفسدت كل شيء. و إذا شئت أن تصدقني فينبغي عليك الاستمرار في السرقة).
كانت حياة جينيه متقلّبة ما بين الترحال و التنقل و الغنى المؤقت مما كان يجنيه من كتاباته. في كل تلك الأحوال لم يكن يتورّع عن ممارسة فعل (السرقة).. وهو ما جعله يدخل السجن اثنتي عشرة مرة..
ولا يخجل جينيه من الاعتراف (بلصوصيته) خلال سيرة حياته الروائية التي عنونها (يوميات لص)..
هل ساعدته حياة الجنوح و الانحراف تلك.. على مقاربة حيوات أناس الشارع الذين نقل أوضاعهم فيما كتب.. ؟
و يعترف جينيه بعلاقاته (المثلية) دون أدنى شعور بالخجل، و لعل قصيدته (الرجل محكوم عليه بالموت) تحمل الكثير من إشارات الجنوح و الشذوذ و كان كتبها بين جدران السجن.
في كل ما كتب جان جينيه إنما كان يحاول فضح وجه الزيف و النفاق للمجتمع البرجوازي.. أراد الانتقام من هذا المجتمع عن طريق الإمعان بالفحش والشذوذ.
و على الرغم من كل السواد الذي غرسه هذا المجتمع في قلب جينيه، استطاع أن يحيل هذا السواد خلقاً إبداعياً لافتاً.. لامس من خلاله هموم المضطهدين و السود، الفقراء و المشردين.. و معروف عنه أنه ناصر القضية الفلسطينية.
و لم تكن عبارته (سوف أكون لصّاً) التي ساقها و كما لو أنها اعتراف، سوى ردة فعل تجاه مجتمع رفضه منذ البداية.