ولستُ بصدد مافرض نفسه بقوّة بعد ذلك الانهيار المدوّي للمنظومة السّوفييتيّة، انطلاقاً من أنّ النّظام السوفييتي كان حاضن الفلسفة الماركسيّة، أيديولوجيّاً، ويعبّر عنها، فبعد ذلك الإنهيار ذهب معظم الكتّاب إلى استخدام مفردة (المعرفة) كبديل لـ (الأيديولوجيا)،انطلاقاً من أنّ المعرفة أوسع آفاقا، وأكثر شموليّة، وأسلم دلالة من (الأيديولوجيا)، إذ إنّ لكلّ أيديولوجيا منظومة من المفاهيم تحدّد رؤيتها، وباعتبار أنّ العالم، بتطوّراته التاريخيّة، وباحتمالات ماسيجيء هو أكبر من أيّ نظريّة فلسفيّة، لذا تبدو مفردة (المعرفة) أكثر دقّة، وأعمق دلالة، إذ يتعاصر في زمن واحد أكثر من أيديولوجية، ولانعرف ماالذي ستحمله قادمات الأيّام، كما أنّ المعرفة أكثر إيماناً بالتّعدّديّة والديموقراطيّة، وهي لاتقفل الآفاق بل تتعاطى مع اتّساعها الرّحيب، ولعلّ بعض مَن أخذ بهذه الرّوح رأى فيها ردّاً غير مباشر على فقدان الديموقراطيّة،والتّعدديّة في المنظومة الاشتراكيّة، ولكي لايبدو الكلام وكأّنه يذهب في اتّجاه واحد، لابد من الإشارة إلى تلك الإيجابيّة الكبرى في تلك المنظومة والتي كانت تتكفّل بها الدّولة بحياة النّاس، وبإطعامهم، وبتطبيبهم، وبتعليمهم، وبمسكنهم، وفي ذلك من العدالة الاجتماعيّة مايدفعنا لمزيد من الحلم بمجتمع تتكفّل فيه الدّولة بجميع حاجيات أبنائه، لأنّه مجتمع الخير، أيّاً كانت أيديولوجيّته، لاسيّما وأنّ التّجربة الرأسماليّة، واقتصاد السّوق الذي حاولوا التّرويج له، وتطبيقه،..حصدنا كلّ هذا الخراب الذي نواجهه الآن،.. هذا الاقتصاد تُثبت التّجربة يوماً بعد آخر أنّه اقتصاد نهبويّ، مدمّر، لايصلح إلاّ للشركات المّاصّة لدماء الشعوب، فخلال عشرين سنة تقريباً نعاصر بوادر انهيار ذلك النّظام الرأسمالي الذي طبّل له مَن طبّل،على أنّه سقف ماوصلت إليه البشريّة في تطوّرها، وفي حُسن الإختيار، وهاهو على شفا جُرُف،
-2-
الأيديولوجيا قد تكون دنيويّة، وقد تكون دينيّة، ونحن هنا نتكلّم على الأيديولوجيا الدينيّة، لاعن (الدّين)، إذ ثمّة فرق بينهما، ولعلّ الخطورة الخفيّة تكمن في (التّديّن) الأيديولوجي، وهذا يشمل ماهو دينيّ وماهو غير مٌنزَل من السّماء، فقد عايشنا، وقرأنا مَن يعتبر منظومة الأفكار التي يتبّنّاها، أو ينحاز إليها، وهي نتاج فكر بشريّ، لاأثر فيه لأيّ تدخّل ربّاني،.. ثمّة من يعتبرها قمّة كلّ صحيح في هذا العالم، وأنّها وحدها الكاملة، وأنّ بقيّة الأفكار يُحكَم عليها بمقدار اقترابها منها أو ابتعادها عنها، وإذا كان التّعصّب الدّينيّ، هو في عُرف العقلاء، ليس من جوهر الدّين، فإنّ التّعصّب الذي يتّخذ شكل العصبيّة الدينيّة فيما ليس دينيّاً.. يكاد يجعل من اللادين ديناً،!!، وقد يكون صاحبه أو الدّاعي إليه غير متديّن، وذلك هو شأن بعض المتعصّبين لأيديولوجياتهم الفلسفيّة أو الفكريّة، فهي عندهم سقف الفكر البشري، ويُصنَّف في هذه المرتبة أيّ تعصّب لأيّ مذهب من مذاهب الحياة أو حتى الأدب، لأنّه خروج من رحابات الحياة، وعطاءاتها إلى الضيِّق، المُقفَل من القول، وهذا مجاف لروح الطبيعة: كتاب اللّه التّكويني، بحسب أقوال الصوفيّين، ففي الطّبيعة من التنوّع في الأشكال، واختلاف الأنواع والأجناس، من عالَم الجماد، إلى عالم النّبات، إلى عوالم الأحياء،... فيه من التنوّع،والألوان مايُغني جمال اللّوحة، ويدلّ على حجم الإبداع فيها، وجوهرُ غناها هو ذلك التّعدّد المنسَّق، الجميل، الباهر، المثير، ولا شكّ أنّ ذلك التعدّد المُعجِز هو أحد سماوات الإستلهام البشريّ في أن يكون التعدّد الذي نطلبه باهراً، وإنسانيّاً وجميلاً، ونافعاً، اقتداء بالموضوع، الذي يمكن اعتباره (مثَلاً) مضروباً، لمن يتأمّل،
المؤكَّد أنّ إسقاط، أو سقوط الأيديولوجيا الماركسية، في شكلها الذي طُبِّقت به، لم يكن المقصود منه فكفكة هذه المنظومة، لصالح التّعدد والديموقراطيّة كما زعمت عواصم الغرب، بل كان إزالة تلك القوّة من الطريق، للوصول إلى وضع اليد على منابع الثروة في العالم، وإلاّ ماالذي يجعل تلك العواصم، وعلى رأسها واشنطن تتبنّى تنظيم القاعدة، ممثّل الإنغلاق، والتّحجّر، والتّكفير،
كيف تجتمع الدّعوة للتعدّد، من ممثّلي أحاديّة اقتصاد السّوق، والتّعدّديّة السياسيّة التي تؤرّق أعين مَن في البيت الأبيض!! مع مجموعة من الذين يكفّرون ماعداهم، ومنهم أصدقاؤهم في تلك العواصم؟!!
السؤال مطروح من زاوية فكريّة معرفيّة بحتة، لامن الزّاوية السياسيّة، فللسياسة (دِين) آخر حتى عند أصحاب اللّحى الطويلة من التّكفيريّين،
وهكذا يلتقي قادة مجتمعات لاتنقطع فيها الكهرباء، ويُضرب المثل ببعضها،..بأناس مازالوا يعيشون في مغاور التّاريخ من النّاحية العقليّة، وهل يُقال غير هذا فيمن دمّر تمثالي بوذا في أفغانستان، وبالذين يريدون أن يغطّوا آثار مصر بالشّمع لأنّها أصنام!!
إنّه الاختراق الكبير، فكريّاً، لصالح المشروعات السياسيّة التي لاتلتزم بأيّ حقّ كان، ولديها حقّ واحد هو أمن إسرائيل، وهي تجعل من الأيديولوجيا التي تريد تسويقها غطاء دينيّاً، يرفع رايات تزعم إنّها إسلاميّة، وهي أبعد ماتكون عن جوهر الإسلام المحمّدي، بل هو إسلام الإفتاءات المتلوّنة في الزمان والمكان، ويكفي تدليلاً على ذلك وقوف أعداد كبيرة من شيوخ الدّين المرتبطين بدينهم، وبأوطانهم، في وجه أولئك الذين ليسوا أكثر من سماسرة للغرب، ومروّجي بضاعته،
في السّياق الذي نحن بصدده لابدّ من الفصل بين التديّن الفردي، لأيّ دين له من بأخذ به فوق الأرض العربيّة، وهذا حقّ مقدَّس، لايجوز المساس به،
لأنّه اعتداء المشيئة الإلهيّة،: «ولو شاء «لَجَعَلَ النّاسَ أمّةً واحدة» كما ورد في القرآن الكريم، فتلك مشيئة اللّه وإرادته، وأيّ تجاوز أو اعتداء على هذا الحقل هو اعتداء على الإرادة الربّانيّة،.. لذا، ولأسباب متعدّدة لابدّ من التفريق بين هذا ومَن يريد على أن يُكره النّاس على رؤية اجتهاديّة، بشريّة، صدرتْ عن منتمٍ لهذا المذهب أو ذاك، فذلك خروج عن روح سماحة الإسلام، و «الخليفيّة» التي أناطها به ربّ العباد، بل هو بشكل من الأشكال اعتداء على واحدة ممّا اختصّه اللّه لنفسه، وهو محاسبة العباد، «َفَأنتَ تُكْرِهُ النّاسَ على أنْ يَكونوامؤمنين»؟!!
-3-
الدّين قد يكون أيديولوجيا وقد لايكون، ونحن نتحدّث عن الأديان الموجودة فوق أرض هذا الكوكب، وإذا كان الدّين الإسلاميّ قد اهتمّ بشأن الإنسان اهتماماً كبيراً، من التّوجّه إلى اللّه العليّ الأحد، إلى: «إنّ إماطة الأذى عن الطريق صدقة» كما ورد في الحديث النّبويّ، فإنّ ثمّة أدياناً أخرى لم تهتمّ إلاّ بطرائق تصفية النّفس تهيئة لصعودها إلى الأعالي، حيث الإنعتاق من أرباق هذه الدّنيا، كما في البوذ يّة مثلاً، وليس عدد الآخذين بهذا الدّين بالقليل، والجوهرالأعلى الجامع بين الدّيانات هو (الحبّ)، أن تحبّ اللّه، وأن تحبّ جميع مخلوقاته، والخطورة الكبرى، والتي تتلبّس لبوس الدّين، وما هي من جوهره في شيء، ذلك التّعنّت التّكفيري، حيث وُجد، لأنّه يتحوّل إلى أيديولوجيا مدمِّرة، خارجة عن حدود الإنسانيّة، ولقد عرّفنا التّاريخ على أناس كانوا يقومون اللّيل، ويصومون النّهار، وكانوا على درجة خطيرة من الإنغلاق، والزّعم الأحادي، (الخوارج)، فكان تشدّدهم أحد أسباب ابتعادهم عن النّهج المحمّدي، من حيث بعض الأفعال التي أتوها، وارتضوا لأنفسهم النّأي عن مواضع هي من أدقّ، وأشرف محمول رساليّ، في تجسيده البالغ الرّهافة، والحساسيّة العليا المعبَّر عنها بقوله : «أَوَشَققْتَ عن قلبه»؟!! والمُجَسّدة قرآنيّاً بقوله عزّ وجلّ واصفاً رسوله الكريم:» وإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم»، ولم يمدحه بخُلُق التّمثيل بالمقتول، ولا بتقطيعه، ولا بتكفير الآخر،
إنّ ماواجهته على الأرض بعض الأيديولوجيات، دينيّة ووضعيّة، يُفترَض أنّها تشكّل تجربة غنيّة للأخذ بروح التّعدّديّة، وهذا يحتاج لنضال نوعيّ كبير، لاسيّما بعد أن ركب ذلك الطّريق أحاديّون، يرفعون راية الدّين، ويقتلون باسمه، ويُلغون حياة الخصم، فيقتلونه،غير مكتفين بالحَجْر على رأيه...
aaalnaem@gmail.com