لكنَّه لا يقدم هذين المرتكزين كما هما, إنَّه يقدم الوهم بهما, لأنَّ معادلة المسرح الأساسية تبنى على أساس من الوهم بالواقع. وهو بالتالي يقدم زمنه الخاص الذي يميزه عن بقية الفنون والعلوم. إنَّ زمن المسرح زمن متفرِّد مستقل, بمعنى أن فهمه يقتضي منَّا أن نعرف أنَّ المسرح فن له استقلاليته التامة, وأنه ليس زمناً باطناً, فهو مكتفٍ بذاته, له سببياته ومنطقه الخاص, وأوَّل شرط في كونه زمن حاضر وهذا لايعني فقراً في الزمن المسرحي بل هو سبب من أسبابه الكيانية, فهو يقيم جدليته وتأثيره مع مُشاهد لابدَّ منه, وزمن المشاهدة هو زمن حاضر فقط. وعلى هذا تكون الكلمة والحدث والحبكة و خطوط العمل وحيثيات النص, مبادئ أولية لتأسيس الزمن الحاضر هذا, وإن كل ماعداه ملغى تماماً. إنَّ زمن الحدث ليس هو بالشرط زمن المشاهدة والأعم الأغلب في الدراما العالمية ما يقتضي مخالفة زمن الحدث لزمن العرض. إنَّ ماضي الحدث ومستقبله وحاضره يتلازم وينصهر من أجل إنتاج حاضر العرض. إن زمن النص يسير قدماً أي من البداية حتى النهاية ومروراً بالوسط عن طريق بنى حلزونية أو دائرية أو أفقية, وزمن القراءة يقتضي أيضاً أنَّ البداية تتبعها وسطية وهذه تتبعها لحظة النهاية, لكن هذه الأزمنة تتكتَّل في العرض المسرحي لتعلن عن الحاضر فقط, فالماضي يذهب إلى الحاضر سواءً أفقياً أو حلزونياً أو بأية صيغة, كذلك يعود المستقبل ليرتد نحو الحاضر.
و يجب ألا نخلط هنا بين مفهومين مهمين: المفهوم الأوَّل وهو الذي ينظم الماضي والحاضر والمستقبل وهذه تخارجات زمن النص,المفهوم الثاني وينطوي على البداية والوسط والنهاية وهي أزمنة النص. فالماضي ليست بداية ولا يستلزم الوسط أن يكون حاضراً كما لا يتوجَّب أن تكون النهاية هي المستقبل. إنَّ الكثير من النصوص الدرامية تشير إلى المستقبل في بداية النص( الغرس المسرحي) أو أن نهاية النص تعود عن طريق التذكر أو الاسترجاع أو الإخبار إلى الماضي فتتداخل أزمنة النص .
إنَّ واحدة من الموضوعات الأساسية التي تناقشها الفلسفة الوجودية هي موضوعة «الوجود» التي لا تكتفي بذاتها, بل يمكن اعتبار الوجود (عتبة) أولى للدرس الفلسفي الذي يناقش جوهر هذا الوجود في استقصاء ماهيته أي ماهية الوجود, وفي هذا تتحقق قضيتان بارزتان الأولى: الإقرار الثبوتي أنَّ الإنسان موجود أوَّلاً وهذه غاية كبرى من غايات الدرس الوجودي. والثانية: في ماهية هذا الوجود وهي التي تحيلنا إلى دراسة الزمن الوجودي. ويأخذ د- شفيق المهدي ثلاثة نماذج من نصوص سارتر المسرحية ليستنبط و يستخلص مفهوم الزمن المسرحي عنده .1- مسرحية «الذباب» وفيها زمنان, الزمن الأوَّل هو زمن الأسطورة والنص عند الإغريق وهو مادة الزمن الثاني والذي هو زمن نص مسرحية الذباب, التي يكون الزمن فيها لا واقعياً, بمعنى أن البنية الكلية لزمن النص هي بنية تغلفها الأسطورة- لكن سارتر- عالج هذا الغلاف الأسطوري معالجة معاصرة من حيث اللغة والعلاقات والشخصيات والأهداف. إنَّ البنية الزمنية للذباب تناقش مفاهيم مختلفة مثل: الندم , الحرية, المسؤولية, الفرد وعلاقته مع الآخرين. ويتشظى الزمن العام لهذا النص باتجاهات مختلفة هي:1- زمن شخصية أوريست – وهو زمن أساس لأنه زمن الشخصية الفعالة والأولى في النص.
2- زمن شخصية الكترا- وهو زمن أساسي في النص ينعزل عن شخصية أوريست شكلاً إلاَّ أنَّه يلتقي معه مضموناً من حيث الهدف الرئيسي, وهو الانتقام لمقتل الأب» أجامنون» فهو منفصل أوَّلاً لأنَّ وجود إلكترا هو كذلك من حيث هو صفة لالكترا يميِّزها عن زمن أخيها أوريست, لكنه ينفصل تماماً بعد الانتقام من حيث الشكل والمضمون عن زمن أوريست.
3- زمن الإله جوبيتر- وهو مزيج من زمن أسطوري غير واقعي – وواقعي بمعنى أن جوبيتر له حسب النص ما للإنسان من صفات.
4- زمن الكائنات غير العاقلة: الذباب, الجنيات. و هو أسطوري خالص فالجنيات لا تشيخ ولا تهرم وهي شابة مدى الدهر.
5- زمن مدينة اراكوس- وهو زمن يدلل على انطفاء هذه المدينة باعتبارها مكان.إنَّ زمن المدينة هو الزمن الكبير لأحداث ووقائع هذا النص المسرحي, وفيه يعالج المؤلف الزمن من حيث آثاره على سكان المدينة, كما إنه يعطي بهذا الزمن صفاته التي هي :الموات, الملل, العبودية. إنَّ مايهمنا هو أنَّ زمن الحدث المسرحي الذي يقع خلال 24 ساعة فقط, وهو الزمن المسرحي لنص الذباب. إلا أن أحداث هذه ال 24 ساعة تناقش وتعالج زمناً يمتد إلى 15 عاماً , وإن الأساس الذي يميز شخصيات المسرحية هو الاغتراب في الزمن، إذ تعيش الشخصيات الرئيسة اغترابها عن واقعها الصحيح, والزمن في الذباب يحتمل قدرية واضحة هي قدرية المصادفة في عدم مقتل «إيجست» على يد رجال إيجست, وفي لقاء إيجيست مع شقيقته الكترا.
وفي مسرحية «جلسة سرية» كما يرى د- شفيق المهدي تتوضَّح البنية الزمنية باتجاهين: الأوَّل هو أنَّ النص ينجز زمنه في ال»هناك».. وهناك يوم الحساب, اليوم الآخر, القيامة, بعد أن تمَّت تصفية الحساب وبعد أن أدينوا ليُلقى بهم في الجحيم. إذاً زمن»هناكَ» يعدل ويقترن ب»الجحيم» كمكان, فالشخصيات الثلاث أدينت بناءً على ما فعلوه في ال»هنا» الدنيا على أفعالهم في زمن سابق, وجاء القرار أنَّ مكانهم هو الجحيم, الذي يعني انفصال وعزلة الشخصيات في الزمن. وبذلك تتحقَّق في مسرحية «جلسة سرية» ثلاثة أزمنة تنجز تواجدها باتجاهات ثلاثة تنصب في إناء واحد, الأوَّل هو زمن الشخصيات في الجحيم وهو لا يتجاوز ستة أشهر, والثاني زمن حياتهم على الأرض وذكرياتهم عنها وهو زمن عمر كل الشخصيات.وهذه الأزمنة تجتمع في وحدة زمن واحد هو مانسميه في المسرح ب( وحدة الزمان).
أمَّا في مسرحية»موتى بلا قبور» والتي يحيلنا عنوانها على المأساة، إذ إن الموت وحده مأساة, والقبر دليل محسوس على أنَّ مأساةً قد وقعت لأحد الناس على الأقل, لكنَّ سارتر لايضع المأساة عندما يكون الموتى بلا قبور, فالموت هو إقامة الحد عن عمد أو غير عمد للحياة أي للزمن. والقبر هو علاقة مادية معرِّفة لفناء وموت شخص – انقضاء أجله- أي زمنه والمأساة التي تحدد المسرحية تكمن في أن ليس للموتى قبور, والموتى شهداء من أجل الوطن, والنظر إلى زمن الشهيد عند كل الأمم ليس كالنظر إلى زمن الموتى العاديين. إنَّ الزمن الأوَّل يستدعي توتراً أشد مأساةً وبطولة استثنائية, فالشخصيات تتصارع بين حدين زمنيين وجوديين بين شيء لايمكن احتماله لقسوته, وبين لا شيء يتحقق فيه الموت يؤكِّد قضية ميتافيزيقية ولكنه لايلغيها, إنَّه يؤكِّد عبثَ الحياة وعدم معنى الوجود الإنساني. ويقع هذا في جهة ومكان رجال المقاومة الفرنسيين, أما على جهة الألمان فالزمن يتشابه مع زمن الفرنسيين لكن ليس لنفس الأسباب, فالجلاد لا يشبه الضحية عموماً ، والسبب هنا هو التوتر النفسي الشديد والضياع في الشغل والانهماك في حفلات التعذيب التي يقيمونها, وهذا يدفع إلى إفلات الزمن حتى في أبسط أشكاله الوقت أو اليوم.
الناشر:طبعة خاصة بغداد 2010 .