تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بشير مفتي يراقص دمية النار

كتب
الأربعاء 15-2-2012
باسم سليمان

بقدر ما ينسج الروائي, العقد القرائي, بطريقة أشبه بعقد الإذعان مع القارئ المفترض, يحقق لسرده التجذر في العمود الفقري لوعي القارئ, ما يسمح بشخصنة السرد ودخوله أنساق الحياة دون أداة تشبيه تجعله مشبّهاً يسترضي المشبّه به

وهذا يحدث سواء في الرواية ذات المنحى الواقعي وطرفها الآخر رواية الفانتستيك أو الخيال العلمي وما بينهما وما أشكل.‏

وهناك جملة من المعطيات يستخدمها الروائي لتتكامل وجودية روايته, سواء الزمانية أم المكانية أم شخصيات حقيقية وهذه المعطيات تعتبر خارج سردية وعليه يسعى لمعطيات داخل سردية تحقق له مرامه وقد يكون من أفضلها ما سُمي بسرد تيار الوعي، حيث الخطاب الروائي ينطلق من ضمير المتكلم ولكن لهذه الموضوعة مشاكلها الخاصة وإنْ حاولتْ حلّها عبر السرد ذاتية، ومن هنا لجأ الروائي بشير مفتي إلى لعبة المخطوط أو لنقل مذكرات « رضا شاوش» أو روايته المكتوبة بتيار الوعي لينقي سرده من شبهة تواطؤ الراوي بل أكثر, إذ يقدمه كأحدى شخصيات الرواية, رواية رضا شاوش, واستهلال الراوي أيضاً, على أنه شبيه الكاتب بشير.م وفي هذه إشارة ضمنية لتأصيل الرواية في الواقع, فالراوي الذي يتعرف على رضا شاوش ويستبيح لنفسه استهلال الرواية الذي طال؛ ليؤسس لدخول مخطوط رضا شاوش هو في زمن بشير مفتي, إذاً, هو موجود وكذلك رضا شاوش الذي أرسل مخطوطه للروائي طالباً منه أن يذيله باسمه وأن تكون نتاج تخيله لكن أن تروى كحقيقة واقعة رغم ما يشوبها من خيال لم يعد يميزه عن الواقع في وعي رضا شاوش شيء.‏

لم يكن رضا شاوش في روايته إلا شاهداً على ما حصل في الجزائر بعد الثورة في مخطوطه وكان في الواقع منفعلاً وفاعلاً في هذا (المابعد) وهذه البرزخية لشخصيته جعلتْ من سرده أشبه بالاعتراف ومحاولة إطلاق حكم قيمة على هذه الذات وهذا الواقع وإنْ لم يأخذ الدرجة القطعية, فلقد ظلّ رضا شاوش ينوس بين الفعل والانفعال للحظة الأخيرة في الرواية, فهو لم يكن يقدر على الحسم, فهو أشبه بهاملت الذي فسر تردده بكثرة اعتمال العوامل داخله بين القدرة والضعف والشك واليقين.‏

رضا شاوش هو الحدود البينية بين المتن والهامش, فأبوه كان عصا السلطة في السجن تؤدب بيده من تشاء, هذه الحالة دفعته إلى رمادية تجلتْ, بمعطيات حياتية, علاقته مع والده التي يشوبها الحذر والخوف والرهبة, انفتاحه على حياة الهامش عن طريق عدة طرق المكانية والزمانية والشخصيات, فمن معلمة اللغة العربية التي فتحت له عالم القراءة ومنها ظهرتْ رغبته أن يكون كاتباً إلى شخصية « العربي» وسعيد بن عزوز منافسه في الصف والكاره له لأن والد رضا كان سبباً في انتحار والد سعيد والذي بدوره انتحر أو قتل على يد الرجل السمين من المتن السلطوي الذي يدخله رضا لأنّه من صلب أبيه وأبيه كان من المتن في حين رغم محاولات سعيد بن عزوز رُفض لأنه من الهامش وعلاقته برانية حبّه النكوصي والتي عذبها بيد أخيها عندما شاهدها مع رجل آخر, ومن ثم عن طريق «العربي» يتعرف بالروائي الذي يرسل له مخطوطه.‏

هذه الشبكة من العلاقات, تكشف عن اليد الخفية التي تحرك المجتمع الجزائري بعد الثورة والتي أخذت على عاتقها حماية الثورة, فما تلبث أن تصبح هي استعمار من الداخل, تبيح لنفسها امتصاص نسغ الحياة في البلاد, لتحمي المتن من الهامش الذي أنتج متنه عبر تطرف أدخل الجزائر في متاهة من الدماء استمرت سنوات.‏

وفي تسلقه لدرج المتن, تتكشف الحقائق وبدلاً من أن يصبح رضا مثل « العربي» نراه ينغمس ويتحول لمصاص دماء, يغتصب حبيبته ويقتل الرجل السمين الذي في توبة متأخرة يلفظه النظام كما حدث مع أبيه عندما أدعى الجنون هرباً من هذه المكنة الجهنمية لكن الرجل السمين ينهي حياته, فالولاء الكامل للمنظومة أو الموت إلى أن يكتشف أن رانية حبيبته التي هربتْ مع رجل آخر, له ولدٌ منها وهو مع المتطرفين في الجبل, يصعد لهناك محاولاً تلمس مقتل له يريحه من الذي فيه وأن ينقذ ابنه لكن في اللحظة التي توضع فوهة البندقية على جبهته من قبل ابنه, يمر شريط حياته أمامه ولكن يسقط كل من حوله إلا هو.‏

يعود بشير مفتي للفترة التي تلت الثورة الجزائرية يقشط عنها الرواسب ليعري خطاب السلطة ويتلمس خطاب الهامش, يهدم ويسخر من الخطابات التي سردت تلك المرحلة ويوتوبيتها المزيفة, ويحلل ويسبب في ما آلت له الأوضاع ورغم العدمية التي ينشرها البطل وفشله ألا يكون نسخة أكثر سوءاً من أبيه/ السلطة الذي رغب بقتله أو تغيرها والذي يبديه بسرد دائري, فنقطة البداية هي نقطة النهاية وكأن لا شيء يحدث وهناك قدرية عمياء, لا تسمح بأدنى تغيير, نجد أن لعبة الرواة الثلاثة تكسر هذه الدائرة, فمن سردية رضا شاوش والتي تعلوها رواية الراوي الذي قدم لرواية رضا إلى الراوي بشير مفتي ذاته, فإخراج حياة رضا شاوش للعلن ونشرها كما تمنى, يعني أن المنظومة الخفية التي تتحكم بكل شيء قد قصرت يدها.‏

تغدو الرواية هنا, الصوت الذي يكسر الصوت الأحادي لأي سلطة وتلعب دورها أنها « الأنت» مقابل « الأنا» أو الآخر مقابل من يدعي المركز وأن المركز هو آخر بالنسبة وهكذا تشبك الرواية مع الحياة التي تغرق في محيط الفساد لتصنع منها مركباً قادراً على العوم والإبحار. إنها كسر ضجيج الموت بصمت الكلمة , ولم يكن في البدء الكلمة.‏

Bassem-sso@windowslive.com

دمية النار رواية من القطع المتوسط صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون لعام 2010 وهي من الروايات التي انتقلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2012.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية