|
حوار وحيرة في الدنمارك ترددت كثيرا قبل أن أحزم حقائبي للسفر إلى الدنمارك, فذاكرة العرب ليست قصيرة أو باهتة ونحن نعلم العار الذي جلبه للدنماركيين رسام حاقد أشعل العالم كله بالغضب وهدم ما تأسس عبر عقود طويلة من الحوار والتفاهم, وقطع روابط الإخاء المأمول بين الشرق والغرب. لقد كان علي أن أستجيب لواحد من أمرين: المقاطعة التي نادى بها عدد كبير من رجال الدين والتي كانت في الواقع رداً على الإساءات المتكررة من الصحافة الدنماركية, وهي مقاطعة صارمة تشمل ترك البيع والشراء والإعراض عن كل منتجات الدنمارك من صناعة وتجارة وسياحة, وبين موقفي وقناعتي التي تتمثل في أنه لا ينبغي أن نستجيب لطيش فجار حاقدين ونحقق لهم آمالهم في القطيعة بين الإسلام والغرب وهو بالضبط ما يأمله هؤلاء الذين يهدمون عن عمد جسور التواصل والإخاء الإنساني. هل يكون صواباً أن تغيب سورية عن لقاءات دولية دقيقة لا تتوقف في عواصم مختلفة وتستدعي فريقاً كبيراً من المحاورين على كفاءة غير عادية, يقومون بملئ هذا الفراغ باللغات العالمية الحية, والخبرات الاستثنائية? ولمصلحة من يتم تغييب الوطن عن هذه اللقاءات الدولية التي تنعقد في عواصم الأرض بعد أن تأكد أنها قائمة لا تتوقف على حضورنا أو غيابنا وهي لا تنتظر منا بياناً بمشروعيتها ولا ترخيصاً لانعقادها? حزمت حقائبي وتوكلت على الله خاصة وقد جاءني في الوقت نفسه فرصة مؤتمر آخر ينعقد بعد يوم واحد من مؤتمر الدنمارك في سالزبورغ المدينة النمساوية العريقة على شاطئ الدانوب. كان السيد إريك نورمان سفندسن الأسقف الدنماركي قد جاء إلى دمشق في آخر شهر رمضان, فيما يشبه زيارة تصحيح للعلاقات ولتقديم إعلان صريح حول موقف الكنيسة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, وأعلن أن الكنيسة تتألم للموقف الهمجي الذي صدر عن بعض من لا يؤمنون أصلاً برسالات الأنبياء, وفي لقائه مع السيد الرئيس بشار الأسد أعلن سفندسن أن روح التسامح والمحبة التي تشهدها سورية هي في الواقع أرقى تجليات الإخاء الديني المأمول, وهي قدوة وأسوة حسنة في الأرض. وفي ظلال آيتين كريمتين توجهت إلى الدنمارك: الأولى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى), والثانية: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). بالفعل كان اللقاء في كوبنهاغن فريداً ومدهشاً, فقد تمكنت الدبلوماسية الدنمركية من جمع عدد من كبار الساسة العالميين على منصتها منهم رئيس تحالف الحضارات وهو رئيس البرتغال السابق ووزير خارجية الدنمارك ووزير خارجية إسبانيا موراتينوس ورؤساء اليونسكو والأسيسكو والأليسكو والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي إحسان أكمل الدين أوغلو, ومن النادر أن يتمكن مؤتمر في العالم من جمع هؤلاء الرجال على منصة واحدة, ولكن ذلك بالضبط هو ما تحقق على يد الدبلوماسية الدنماركية, إضافة إلى نخبة من المفكرين والباحثين والخبراء. كان عنوان اللقاء: التعليم من أجل التفاهم والحوار, وباختصار فهو ينقل الحوار بين الشرق والغرب من عبث الصحافة المستهترة إلى القاعة الرصينة للجامعة, ويعيد إلى الأذهان دور البحث العلمي في نشر ثقافة السلام بين الشرق والغرب. في قاعة المؤتمر في كوبنهاغن كانت صور البعثة الدنماركية الأولى التي وصلت إلى اليمن في منتصف القرن الثامن عشر وبالتحديد عام 1761 وفيها يتبارى الدنماركيون في رسم ملامح الشرق بريشة غربية, ويظهرون وهم يلبسون الثياب العربية ويتحدثون عن أخلاق العرب وتسامح الإسلام, وبتصريح يعكس مشاعر القوم كتب كارستن نيبور رئيس البعثة الدنمركية وهو يرتدي الثياب اليمنية التقليدية: من العسير أن تجد بلداً أوروبياً يحتفي بك كما تصنع اليمن, (لا بد من صنعا وإن طال السفر). كارستن نيبور الدنماركي وأوغست فالين الفنلندي وأولف بالما السويدي وآن صوفي النرويجية يرسمون أربعة جسور حقيقية للحوار والتواصل بين الغرب والإسلام وقد دفع بالما رئيس وزراء السويد حياته ثمناً لهذا الانفتاح, ومن حق هؤلاء أن يجدوا من يستأنف رحلتهم في الحوار ويمنع الأشرار من هدم ما قد بنوه من جسور. قلت لهم: تحت عنوان حرية الرأي قام صحافي دنماركي باستفزاز العالم الإسلامي كله, وتولى الإعلام العالمي بالمجان مهمة الترويج لهذه الإساءة, ولم تفلح كل الجهود التي بذلها الشرفاء في العالم للتمييز بين حرية الرأي والتعبير وبين حرية الإساءة إلى المقدس الديني لدى الآخرين, وظلت الدبلوماسية الدنمركية تقول إن علينا عدم التدخل في حريات الآخرين!! ولكنني طرحت الأمر من زاوية أخرى, قد لا يكون ما أقدم عليه الرسام الدنماركي مخالفة قانونية في الدنمارك, ولكن ألا تنبغي محاسبته على الاستهتار والعبث الذي مارسه وأدى بالتالي إلى تخريب العلاقة بين الدنمارك والبلاد العربية والإسلامية? قد لا يكون درس الأخلاق كافياً لتحقيق العدالة ولكن ماذا عن درس المصالح? ولماذا لا يحاسب هذا المستهتر المسيء على إضراره المباشر بالمصالح الحيوية لبلاده? كانت مشاركتي مع العزيز المطران إيسيدور بطيخة وحدها رسالة كافية للقول بأن سورية أنجزت مشروعها الحيوي في التسامح والحوار, وقدمت للعالم نموذجاً فريداً في الإخاء, لقد عاشت الأديان جميعاً في سورية متجاورة متآخية, لا نفرق بين أحد من رسله, ولو حصلت أي إساءة مباشرة لنبي من الأنبياء لاعتبرها المسلمون ردة عن الشريعة, حتى في حالة النبي الكريم موسى بن عمران وهو نبي اليهود الذين نحاربهم منذ وعد بلفور قبل تسعين عاماً فإننا لم نتغير على الإطلاق تجاه هذا النبي الكريم ولا زالت إلى اليوم أسماء أبنائنا على نسق موسى وداود وسليمان ويوسف ويعقوب وإسحق, ولم يقم أحد تحت أي ظرف بالإساءة المتعمدة إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل على الرغم من الحرب الطاحنة مع إسرائيل, لقد كان ذلك كله أثراً مباشراً لتعاليم الأنبياء الكرام. من يصدق أن أوروبا في مطلع القرن الحادي والعشرين, وفي أرقى عواصمها الاسكندنافية كوبنهاغن عجزت عن تحقيق احترام مناسب لعقيدة مائة وخمسين ألف دنماركي يؤمنون بلا تردد بان الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم هو نور العالم وهو منقذ البشرية من الظلمات إلى النور!! إنها بالفعل مفارقة تجعلنا نشكك بالفعل أن يكون عالم الديمقراطيات المزدهر في أوروبا قد طمس عن عمد واحداً من أهم أشكال حقوق الإنسان وهو احترام مقدسه الديني. في البيان الختامي كانت مطالبتنا شديدة بأن مسؤولية العرب في مقاومة التطرف لن تجدي طالما أن الغرب لا يقوم بواجبه في وقف الاحتلال المتزايد في الشرق الأوسط, وكذلك في مواجهة مخاطر الإسلام وفوبيا والعرب فوبيا وتبعات ذلك التي تتفاقم كل يوم. هل سيتغير العالم بعد لقاء كوبنهاغن?? بالتأكيد لا, ولكن غيابنا عن المحافل الدولية تفريط برسالة الحق التي نحملها, والساكت عن الحق شيطان أخرس, والكراسي الفارغة لا تتكلم والغائب ليس له نائب, ومعذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
|