تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«من مذكرات فتاة المروج..»

ثقافة
الجمعة 29-11-2019
ليندا إبراهيم

- لم أسألْكَ شيئاً يومذاك.. ولم أخدشْ أذنَكَ باسمي، وحين غادرتَ بقيتُ صامتةً لا أريم، لا ألوي على شيء، كنت وحدي قرب النبع،

حيث بَسَطَتْ أشجارُ الحور والصَّفصاف ظلالَها حولي، أما الفتياتُ الأخريات، فقد قفلنَ عائداتٍ إلى القرية، بعد أن ملأنَ جرارَهُنَّ الرَّماديَّة، وأخذن ينادينني ويهتفْنَ بي: تعالَي معنا، فاليوم قد ولَّى، وحان وقتُ المساء، لكنَّني تخلَّفتُ عنهُنَّ في حياء وفتور، مستغرقةً في تأمُّلاتٍ لا أعرف لها مبعثاً.. لم أسمع وقع خطاك حين قدمْتَ، كانت عيناكَ حزينتين غريبتين، ووجهُكَ عفَّرَهُ السَّفرُ والتَّرحال، حين تطامَنَتْ نظراتك نحوي، كان صوتُك متعباً خفيضاً. قلتَ: أنا المسافرُ أنا الغريبُ أنا الظميء.. وانتفضت أحلامي من رقادها، وتأمُّلاتي من مكامنها، وسَكَبْتُ من جَرَّتي في راحتيك المضمومتين، كانتِ الأوراق ترسل حفيفاً والبلابلُ تغرِّدُ، وشذا أزهار الياسمين يوافينا من المنعطف. كنت واجفة خجلة صامتة حين استوضَحْتَني عن اسمي، هل تتذكَّر.. لمجرَّد أن يخطر في بالي حتى الآن أنَّني قد تيسَّر لي أن أروي ظمأكَ، فهذه الفكرة تهصر روحي وقلبي، وتلفني بعذوبة لا تنتهي. ولَّى الليلُ.. والطائر الغريد واصل غناءه العذب الرتيب، وأوراق الياسمين ما فتئت ترتعشُ حولي، وأنا جالسة صامتة لا أريم.‏

- كنتُ أودُّ أن أطلبَ إليكَ، وأستهديكَ عقد الزَّهر الذي طوَّقتَ به جسدَكَ، بيد أنَّني لم أجرؤ. وهكذا انتظرتُ حتى الصَّباح رحيلَكَ، لأجد منه أثراً على سريرك، وكالمتسوِّلة رحت أستجدي عند الغسق ورقة منه أو ورقتين.. مسكينةً كنتُ، ماذا وجدتُ، وأي ضمانٍ تركه حبُّك لي؟ إنَّه ليس بوردة، ولا بقارورة عطر، ولا بعود طيب، إنَّه سيفُك القويُّ المتألِّقُ كاللهب، الثقيلُ كالصَّاعقة، الوضيء كالبرق. ها هي شعاعة الفجر الفتيَّة تتسلَّل من نافذتي، وتتطامنُ فوق سريرك، وعصفور الصباح يزقو ويتساءلُ: أيَّتُها المرأة.. أيَّتها الصَّبيَّة ماذا وجدتِ؟.. وأجيب: لا.. إنه ليس بوردة ولا بقارورة عطر أو بعود طيب، بل هو سيفك الرَّهيب.. أجلس متأملة، أي عطاء منحتنيه؟ وأين أجد له مكاناً لأواريه فيه؟ وأنا بعدُ طريَّة العود، نحيلة، لا أستطيع حمله، وإذا ما ضَمَمْتُهُ إلى صدري سيجرحُني، ومع هذا، فلعلي إن حملته وأويتُه إلى صدري أكون قد حملتُ في قلبي هذا الشرف الرفيع الذي قلَّدتنيه في عطائك المغدق بالألم.. حسناً.. لن أبلو بعد اليوم أي خوف من الدنيا.. وأي خلافٍ يقوم بيننا ستكون أنت المنتصر فيه دوماً، لقد تركت لي الموت رفيقاً، وسأكلِّلُ به حياتي. سيفك معي، سأفري به قيودي، ولن أبلو بعد اليوم أي خوف من هذه الدُّنيا من ذلك الوقت، عزفتُ عن أية زينة باطلة يا سيِّد قلبي، ولم أعرف الانتظار ولا البكاء بمنأى عن الناس، ولا التحفُّظ ولا لطف التكلُّف، فقد أعطيتني سيفك لأزدان به، فما لي وزينة الدُّمى، ومالي وما الأغنياء الأغبياء..‏

- لقد عرَّفتني بأصدقاء أجهلُهم، وأدخلتني منازل لا عهد لي بها من قبل، وقد استقدمت البعيد فأدنيته وآخيت الغريب وقرَّبته. إنَّ قلبي ليَجِبُ حين أجد أنَّ عليَّ أن أغادر مسكني فأنسى، حينذاك، أنَّ القديم يمكث في الجديد، وأنَّك أنت أيضاً تمكث هناك. عبر الولادة أو الموت، في هذا العالم أو في عوالم أخرى، وحيث تقودني أنت فإنَّك أنت الرفيق الوحيد لحياتي اللامتناهية والذي يربط قلبي دوماً بأواصر الفرح إلى الأشياء الخارقة.‏

- فلتتَّسِق في نشيدي الأخير كلُّ أنغام الفرح، الفرح الذي يهيبُ بالأرض أن تمرع العشب الغرير الخصيب، الفرح الذي يجعل هذين التوءمين الموت والحياة، يتراقصان في هذه الأرض الرحيبة، الفرح الذي يسوق العاصفة وهو يهزُّ الحياة كلها بضحكة، الفرح الذي يفيء إلى دموعه، في زهرة جورية زهرة الألم المنيرة الحمراء، الفرح الذي ينفض كل ما لديه إلى التُّراب وينبعث على هيئة فرح ثانية من هذا التراب.‏

- وحين انطفأ السراج قرب سريري، استيقظت مع عصافير المروج، وجلست إلى نافذتي المشرعة، وعلى شعري إكليل من الورد الغض ضفرته للتو من ورود الحديقة. لقد أقبل المسافر الغريب، ومر في الضباب الدافق الندي من الفجر، كان عقد الورود لا يزال يطوق عنقه، وأشعة الشَّمس تتلألأ على تاجه، وقف أمام بابي وسألني في نداء لاهف: أين هي؟ ومنعني الخجل من أن أقول له: أنا هي أيها المسافر الغريب.. أنا هي حلت العتمة، ولم أكن قد أضرمت السراج، ورحت أضفر شعري في ذهول، لقد أقبل المسافر الغريب على مركبته المطهمة بالغبار في ألق الشمس الغاربة، ووقف أمام بابي وسألني بصوت واهن: أين هي؟ ومنعني الخجل من أن أقول له: أنا هي أيها المسافر الغريب.. أنا هي وكانت ليلة من ليالي أيلول.. والسراج يضيء حجرتي، ونسيم الشمال يرقد هادراً والسنونوة تستعد للرحيل، كان ثوبي بلون الذهب، ومعطفي أحمر بلون الخمرة، جلست على الأرض قرب النافذة أرقب الطريق المقفرة، وعبر ذلك الليل البهيم، حيث اكتملت دائرة القمر، أخذت أهذي: أنا هي أيها الغريب المسافر.. أنا هي..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية