أيضاً, بأنها لن تنقله إلى ما يجعله مصوِّراً للحياة وغرائبِ ما فيها من محطاتٍ, إلا بعد الكثير من الولع الذي كلَّما اتَّقد لديهِ, ازداد شغفاً باستكشاف فضاءات لا حدود لعوالمها السحرية..
إنها القراءة.. الرحلة التي يبدأها الأديب فجأة, والتي يستمرُ في الإبحار فيها حتى آخر العمر, وبما يجعلها من أهمِ وأشدِّ المؤثِّرات التي يمتنُّ لما لها من انعكاساتٍ, وعلى حياتهِ وأعماله وأقوالهِ التي لابدَّ أن ينصفها بها, وبدليلِ ما اخترناهُ منها ويخصُّ فقط, أدباء العربية..
إدوار الخراط - أديب مصري:
في البداية.. كنتُ أقرأ حرفياً كل شيء
كان ومنذُ طفولته, يحلم بكتابةِ روايةٍ أدركَ, بأنه لن يتمكن من الإجادة فيها, إلا اعتماداً على ما تُغنيهِ به الكتب والحكايات التي حلَّت محلَّ ألعاب الطفولةِ في حياته.. تلك الطفولة التي هذَّبها بقراءاتٍ سرعانَ ما اكتشف سحرها, وبعد أن فتح الخزانة المُقفل عليها في بيت أسرته, وبما أدخله ومُذ كان في الثانية عشرة من عمره, إلى عوالم «كليلة ودِمنة» و«الأدب العربي» وسوى ذلك مما أيقظ حواسه وجعله يحلِّق مع «ألف ليلة وليلة».. بيدَ أن البيئة التي عاشها وحاصرتهُ بما عاصرته من تحوّلات فكرية وحضارية, كان لها أشد التأثير في اختياراته وتوجهاته.. بيئة عائلته التي كانت تنتمي إلى طبقة عاصرت حقبة الثلاثينيات بأزمتها الاقتصادية والسياسية, وبإيمانٍ مطلق بالعدالة والاستقلال والحرية..
لاشكَّ أنه المنبع الذي استقى منه قراءاته, وباتجاهاتٍ صقلت موهبته واختياراته وإلى أن اعترف في أكثر من مكان: «في البداية, كنت أقرأ حرفياً كل شيء.. كلّ ما يقع تحت يدي.. لم أكن أفلتُ ورقة مطبوعة إلا قرأتها وسعيت إليها.. بتقدّم الحياة قليلاً قليلاً, يبدأ المرء في الاختيار والتدقيق. خاصة بعد أن يكون قد قرأ أو عرف ما يمكن معرفته وما أتاحت له قراءاته من كنوز الإنجازات الفنية, وعلى الأخصِّ في ميادين الرواية «الطويلة أو القصيرة» والشعر والفلسفة والتاريخ»..
غالب هلسا - أديب أردني:
قرأتُ في «الزير سالم».. واقعي وشخصياتي
بدأ القراءة والكتابة في سنواتِ عمره الأولى, ومُذ كان طالباً في مدرسةٍ أراد الخروج من الرتابة التي كان يعيشها فيها ومع طلابها, وبما ميَّزه بعد أن فجَّر لديهِ الكامن من الأحلام الأدبية.. تلك التي زادته شغفاً لقراءاتٍ لم يجد من يصحِّح ما شكلته لديه من أفكارٍ خاطئة, وبما دفعه وبعد أن قرأ «أرسين لوبين» للبحثِ عنه لمشاركته المغامرة. أيضاً, للبحثِ عن «جساس» قاتل «كليب» الذي ظنَّ وبعد أن قرأ سيرة «الزير سالم» بأنه جدّ سكان قريته ممن راح يشتمه أمامهم معلناً وحسب اعتقاده, بأن ما قرأه كان واقعاً يعيش صراعه القبلي الذي كان له أشد الانعكاس على كتاباته..
كل هذا, ذكرهُ في كتابه «أدباء علموني.. أدباء أعرفهم» وبدءاً من الفصل الأول الذي جعل عنوانه «الزير سالم» وفيه يقول: «كان سكان قريتنا ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين, وفي الفترة التي كنتُ أقرأ فيها هذه السيرة, كان هناك خلاف ومعارك بينهما, ورغم أن المعارك كانت تتم بين راجلين لافرسان, ولم تُستخدم السيوف وإنما الحجارة والعصي, ولم يقع قتلى, لكنني رأيتُ في ذلك, صورة لحرب البسوس.
لقد أصبحت سيرة «الزير سالم» عندي بؤرة لالتقاط مجموعة من الشخصيات الأدبية ومفتاحاً لفهمها. إن تلك الرغبة في الانتقام الذي يعيش مع الشاب «الزير سالم» حتى موته ومع الطفل يكبر ويقوي ساعده لينتقم لأبيه «كليب» رأيتها فيما قرأته..
قمر كيلاني - أديبة سورية:
كانت المطالعة أولاً.. أولعتُ بها في العاشرة..
أيضاً, جذبتها القراءة إلى أن أُولعت بها مُبكّراً, وكانت كلَّما قرأت عبارة جميلة أو بيتاً من الشعر, تقوم بنسخهما على دفاترها المدرسية لتعيد قراءتهما متى شاءت, وهو ما شكَّل لديها خلفية أدبية أغنتها بالمزيد من القراءات التي لم تمنعها من أن تتفوق أيضاً, في قراءاتها المدرسية.
إنه الشغف الذي جعلها تعشق الحرف حدَّ قيامها بتقليد ما تقرأ ومن ثمَّ بتدوين ما يشبهه وكبدايةٍ انطلقت منها إلى ما ألهمتها إياه موهبتها الأدبية.. الموهبة التي ابتدأت منذ قيامها وكلَّما انتهت من قراءةِ كتابٍ بتناول آخر, وإلى أن قضت عمرها بين الكتبِ التي اعتبرتها ثمرة العقلِ والإبداع.. ذاك الذي امتلكته بعد الكثير من القراءاتِ التي أجابت يوماً, ولدى سؤالها عنها: «كانت المطالعة أولاً, فقد أولعتُ بالقراءة منذ سنٍّ مبكرة جداً.. أي في العاشرة من عمري, وكنتُ كلَّما قرأتُ عبارة جميلة أو بيتاً من الشعر, أنسخه على دفاتري المدرسية لأعيد قراءته قبل أن أعيد الكتاب إلى المكتبة التي أستعير منها الكتب.. أما نوعية الكتب التي كانت بين أيدينا آنذاك, فـ «المنفلوطي» و«جبران خليل جبران» و«القصص المترجمة عن الفرنسية».. يومها لم يكن لدي مجال لمحاكاةِ ما أقرأ سوى عن طريقِ دروس اللغة العربية ومبادئ الإنشاء والتعبير.. كانت تلك هي العتبات الأولى التي خطوت فيها إلى عالم الإبداع الذي اختلط عندي بالكتب الفلسفية والثقافية العامة»..
عباس محمود العقاد - أديب مصري
لاأهوى القراءة لأكتب.. بل لأعيش أكثر من حياة
رغم أن دراسته اقتصرت على المرحلة الابتدائية, ولعدم توفر المدارس الحديثة في محافظة «أسوان»، حيث ولد ونشأ, إضافة إلى أن موارد أسرته المحدودة لم تتمكن من إرساله إلى القاهرة كما يفعل الأعيان. رغم ذلك اعتمد على ذكائه وصبره في التعلم والمعرفة, وإلى أن أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبدًا، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما أيضاً بالعلوم الغربية..
لاشك أن كل ذلك, هو من جعله على يقينٍ بأن القراءة هي غذاء العقل والنفس, وسمو الروح والقلب, بل والوسيلة الأهم في تحصيل الثقافة والابتعاد عن الجهل.. الثقافة التي استمدَّها من كُتبِ الدين والفلسفة والتاريخ والترجمة والشعر وسوى ذلك مما بات غاية قال عنها: «لستُ أهوى القراءة لأكتب ولا لأزداد عمراً في تقدير الحساب. إني أهواها لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة, وحياة واحدة لا تكفيني, ولا تحرّك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.. القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد, أكثر من حياةٍ واحدة, لأنها تزيد هذه الحياة عمقاً»..
في النهاية
نكتفي, ليكون أفضل ما نختم به تلك الرحلة السحرية.. اعتراف «الجاحظ».. أكثر الأدباء والفلاسفة قراءة وحكمة وبياناً ومعرفة, وبما استمده من بطونِ كتبٍ نختار مما قال عنها: لا أعرف رفيقاً أطول، ولا معلماً أخضع، ولا صاحباً أظهر كفاية، ولا أقل جناية، ولا أكثر أعجوبة وتصرفاً، ولا أقل تصلفاً وتكلفاً.. من كتاب.. ولا أعلم قريناً أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخف مؤونة، ولا شجرة أطول عمراً، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى.. من كتاب»..