غلاة الصهاينة الأكثر تشدداً وتزمتاً بالمعنيين السياسي والتلمودي لايعتبرون التهويد مكتملاً ومتحققاً إلا باقتلاع المسجد الأقصى لإعادة بناء «الهيكل» مكانه بالضبط فسياستهم مبنية على إعادة بناء هذا الهيكل المزعوم ولها على الدوام وجهان أساسيان.
الأول: هو التطهير العرقي باقتلاع المقدسيين وتهجيرهم مسيحيين ومسلمين والذين يزداد عددهم رغم ذلك نظراً للنمو الديمغرافي الاستثنائي للمقدسيين المسلمين خاصة.
أما الوجه الثاني للتهويد فيتمثل باعتماد أشكال متنوعة من الاغراءات والتسهيلات ومن مظاهر الترغيب لاستقدام المزيد فالمزيد من اليهود للإقامة في القدس بهدف مواجهة ذلك النمو السكاني العربي المقدسي من جهة، ومن جهة أخرى لمواجهة هجرة اليهود المعتدلين والعلمانيين من القدس بعد ما بات تعايشهم مع المتطرفين المتزمتين أمراً مستحيلاً عليهم.
ولأن الحكومة الإسرائيلية التي يتحكم بخياراتها وقراراتها مجلس «يشع» أي المستوطنين بالذات تملي ارادتها وقراراتها بشكل طاغ على اللوبي الصهيوني (الإيباك) في الولايات المتحدة وتحدد له الخيارات والمواقف، وهذا اللوبي يمارس بدوره تأثيراً حاسماً على الحكومة الأميركية التي ترخي بثقلها الحاسم على قرارات ومواقف الأمم المتحدة وهكذا أصبح مجلس «يشع» أي المستوطنين هو الفاعل الأساسي في توجيه سياسة «اسرائيل» والتأثير الفعلي بالتالي على مجرى السياسة العالمية وعلى هذا فإنه لمن السذاجة بمكان ومن قبيل التبسيط المأساوي النتائج ليس إلا أن يستسهل أمر ازالة المستوطنات أو تجميدها مايعتبره الصهاينة حق نموها الطبيعي المزعوم بمجرد مطالبة «اسرائيل» بذلك لفظياً والاكتفاء بالاصرار على هذه المطالبة وحسب.
العملية السلمية التي بدأت في مؤتمر مدريد 1991 كانت مبنية على مبدأ الأرض مقابل السلام لكنها أصبحت مع حكومات شارون ونتنياهو المتزمتة مرفوضة تماماً ليحل محلها فرض الاستسلام تحت عنوان السلام مقابل السلام فقط وهذا من دون ذكر أو أي تعهد بالتخلي عن أي شبر من الأراضي المحتلة في كل أرض فلسطين والتي يعمل على ضمها إلى « إسرائيل».
مشروع التهويد هذا لا يحيا إلا على فرض الاستسلام ، لاسيما أن عملية السلام تطالب « إسرائيل» أولا: بإزالة المستوطنات من الضفة الغربية وهذه مسألة ترفضها « إسرائيل» قطعياً بل يجسد نتنياهو هذا الرفض القاطع بتوسيع المستوطنات القائمة وبناء المزيد والمزيد منها، وفي القدس خاصة، فالضفة الغربية إنما هي بحسب عقيدة هذا التطرف« يهودا و السامرة» بالذات، أي أرض « إسرائيل» الحقيقية الأصلية بزعمهم فكيف يجوز لإسرائيل أن تنسحب من أرضها وفق عقيدتهم؟
ثانياً: العملية السلمية تطالب «إسرائيل» بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم عام 1948 وهذه مسألة تعتبرها حكومات « إسرائيل» جميعها من رابع المستحيلات، سياستها في هذا الخصوص هي توطين الفلسطينيين أينما يوجودون وليس عودة أي منهم على الإطلاق.
ثالثاً: العملية السلمية تطالب « إسرائيل» بالتخلي عن القدس، أي القدس العربية لكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لاتزال تصر على اعتبار القدس العربية هي أورشليم ذاتها القديمة الأصلية، وتعلنها عاصمة « إسرائيل» الأبدية.
ولذا فهي تتابع قضمها وتهويدها حياً حياً وبيتاً بيتاً، ذلك أن الأحياء الغربية في القدس لم يبنها اليهود إلا في بدايات القرن العشرين المنصرم.
رابعاً: وأخيراً العملية السلمية تقول بالحل على أساس دولتين: قيام دولة فلسطين مقابل دولة « إسرائيل» القائمة وهو ما يعتبره التطرف الصهيوني من رابع المستحيلات كذلك.
أما وأن الساحة تخلى عملياً أمام جموح التطرف الصهيوني المتشدد، فإنه يخشى حقيقة أن تقدم حكومة إسرائيل الحالية على افتعال ظروف وأجواء تسرع شن الاعتداء المعد سلفاً على الحرم الشريف والمسجد الأقصى في غمرة حملتها العسكرية التنكيلية المستمرة التي ما انفكت تتابعها أصلاً داخل المسجد الأقصى ذاته وما حوله.
ليس مستغرباً أبداً أن يتم الاستمرار في أجواء التشنج والتوتر الهستيري للإقدام على أطراف المسجد الأقصى وتدميره لا سمح الله، وهذا من قبل متطرفين مدسوسين أو مستغلين للأحداث الدموية الجارية، عندها سوف تقع الكارثة.
فتسارع « إسرائيل» والصهاينة إلى مخاطبة العالم لامتصاص ردود الفعل بالإعلان عن استنكارها وعن تشكيل لجان تحقيق وتعقب المجرمين، والقول للجميع في العالم: ماذا تريدون منا أكثر من ذلك؟ هل تريدون تدمير الدنيا بأسرها رداً على جريمة ارتكبها فرد أو مجموعة من المتطرفين المهووسين؟؟
على العرب جميعاً وعلى المسلمين في سائر بلداتهم وعلى المسيحيين قاطبة أن يدركوا أن إنقاذ المسجد الأقصى من المخطط الجهنمي إنما الآن وقته، وليس فيما بعد على الجميع أن يدركوا بأنه كلما أحرز التطرف الصهيوني و« إسرائيل» المزيد من النجاح والتقدم في سياسة الإجهاز الكامل على الشعب الفلسطيني وعلى الضفة الغربية، ازداد الخطر الفعلي على المسجد الأقصى.
الوقفة أوانها الآن وليس غداً ، ليس عندما تصنع « إسرائيل» العالم أمام الأمر الواقع.