تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الإبــــداع فـي الزمــــن الــــرديء

شباب
الأحد 21-4-2013
 إرم ديوب

تركت أعمال فيروز والأخوين الرحباني أثراً عظيماً في ثقافة أبناء بلاد الشام, فهي تحاكي عواطف و حالات خاصة لن يدركها أبناء الثقافات و المجتمعات الأخرى

بالطريقة الواحدة التي يتشارك فيها أبناؤها في الشام. ففي تلك الأعمال من رقةِ و تناغمِ الجمل الموسيقية مع كلماتها ما يُلامس أعماق الروح و يضعها في مكانةٍ قلّما يصل إليها أحد من الموسيقيين. فإذا قارنا بين مكانة أعمال فيروز و الرحابنة و الأعمال الموسيقية التي تصدر في زمننا الحاضر, نرى تردّي أثر الموسيقا و الأغاني في مستمعيها, إذ لم يعُد يُنتظَر منها تلك القيمة العميقة و تلك الخصوصية التي تعتمد أساساً على خصوصية حياة الجمهور و طابعها, و بالتالي تعتمد على رهافة حسّه تجاه محيطه في المقام الأول فيكون هو في ذلك الملهم الأساس في الإبداع القيّم. هل ذهب زمن القيمة و رهافة الإحساس إلى غير رجعة, و إذا ما وُجدَت فيروز أخرى و أعمال موسيقية ذات قيمة من مستوى أعمال الرحابنة في يومنا هذا, هل يمكن للجمهور أن يُدرك قيمتها و جمالها؟!‏

لسنا في صدد البحث في السياق التاريخي أو السياسي لهذا التغير في بلدنا أو الوطن العربي, بل في العالم بأسره, و لكننا نرمي إلى التفكّر في النتائج المتراكمة للرداءة على الزمن الطويل و التي أدت إلى انحدار مستمر في القيمة بصورة تشمل مجالات الحياة كلها؛ أياً مَن كان المسبّب فإنه قد وجد تهديداً خَطِراً في الأثر التبادلي بين الإبداع من جهة و قدرة الفرد على تقدير القيمة في كل شيء و تفعيل رهافة الإحساس و صدق المشاعر من جهة أخرى. إنه لأمرٌ عظيمٌ بالفعل! إذ إن من يفكّر و يشعر و يقيّم من تلقاء نفسه, يتّجه أينما يشاء و يدعم باهتمامه من يشاء, و بالتالي فإن مجتمعاً منفتحاً مفكّراً حسّاساً سوف يُعلي شأن من يشاء و يقطع الثقة والدعم عمّن يشاء!‏

على سبيل المثال, أراد مَن يخافُ أثرَ الإبداع في الفنون أن يتبنّى أكثر أنواع الفنون شعبيّة—الغناء— ليضعه تحت إشرافه الدائم فيحجب عن الناس آثارَه الحقيقية, ففي برامج مسابقات الغناء العديدة التي سلبت عقول الجماهير العربية يُستبدَل بالحسِّ الفردي و الذائقةِ الفنيةِ الرفيعةِ الخضوعَ إلى لجان حكمٍ أفرادها هم أصلاً جزءٌ من حالة التردّي الفنّيّ. إذ إن استجلاب مَن يُفترض بهم أن يكونوا على قدر من الخبرة الموسيقية يهدف بديهياً لإفادة الجمهور و المتسابقين من خبراتهم. أليس ذلك سبب تقييم المتسابقين وتوجيههم لا بل و إنشاء المسابقات أصلاً؟! أم أن ذلك يقوم من أجل تغذية حب النجومية و الأضواء في شبابٍ لم يجدوا في هذا الزمن ما يتقنون فعله و يحبونه فتجذبهم خيالاتُ الشهرة و النجاح دون احتسابٍ لحقيقتها و التفوّق الفكري و العمل الدؤوب الذي تتطلبه؟!‏

إن الصورة التي يظهر عليها أعضاء لجنة الحكم في المسابقات الغنائية على سبيل المثال لا الحصر هي صورة حَكَم مُسَلَّمٍ برأيه كأنه منزَّل. كيف لذلك إذن ألا يعطل التفكير ويقتل الذائقة الموسيقية من أساسها؟‏

أليس حرياً بلجان التحكيم تلك –إذا أراد أصحاب البرنامج فعلاً تحقيق القيمة التي هي بالضرورة نتيجة لما يحتاجه المشاهد— أن ينمّوا في المتسابقين و المشاهدين على حد سواء الإحساس العالي و الذائقة الفنية والتفرد في رؤية القيمة فيكون النقد للإفادة لا لتعزيز الرداءة و إبراز مكانة الحَكَم و شهرته و تعويد الجمهور على الخضوع الأعمى في أكثر المجالات حاجة للتفكير و التقييم الذاتي؟ و إلى متى سيكتفي الشباب بالتفكير بطريقة فلان أثنى على هذا المتسابق.... فلنقف ونصفّق؟‏

كيف لنا ألا نرى الصلة الوثيقة و المصدر الواحد بين ما سبق ذكره و بين استيراد لا بل تقبّل ما يُصدَّر إلينا و يُفرَض من صورٍ وهمية عن السعادة و التسلية و النجاح تأتينا عبر المسلسلات و الأفلام و الأغاني المصوّرة الغربية الحديثة و ما يتشبّه بها من أعمال عربية تستحوذ على تفكير الشباب و تُعميهم عن الرؤية و التفكّر خارج نطاق مقاييسها فتعوّدهم على استحسان ما لا يحمل أي صلة بواقعهم و بيئتهم و خصوصية حياتهم و تفردها, فإذا ما اختبر أحدهم حادثة قيّمة في حياته لن ينتبه إلى قيمتها و إمكانية تحويلها إلى عمل إبداعي كقصة أو لوحة فنية, بل سيرى القيمة بدلاً من ذلك في رحلة سريعة في سيارة مكشوفة أو في رقصة صاخبة في الملهى. و بالتالي لن نرى إثر ذلك مَن يجد حلولاً للمشكلات الخاصة بمجتمعه و يبدع أعمالاً فنية صادقة من وحي حياته هو ذاته؛ فهنا قد تمَّ مسح قيمة عقل المرء و حياته ليس لِغَرَض إبداع أعمال إنسانية و حسب وإنما في مجرّد إيلاء الانتباه لتفاصيل حياته وأحداثها و أفكاره عنها.‏

ثمة في الوطن العربي شباب مبدعون ومميزون بحقٍّ في مختلف مجالات الفن والآداب و العلوم ينتظرون فرصة مساعدتهم و إغناء خبرتهم, لكن لا يُحسَبُ لذلك حسابٌ طالما ثمة أموالٌ طائلةٌ تُهدَر على تعزيز حب الأمور الفارغة—أموال تٌبذَل بالقدر الذي تقوم عليه خطورة نفاذ القيمة الحقيقية إلى عقول و قلوب شبابنا, و التي من شأنها أن تهدد مكانة أصحاب الأموال و المكانة الفارغة. لذلك فإنه من واجبنا –نحن الشباب- أن نتحرر من قيود العقل و القلب و نتفكّر في جوهر كل عملٍ و ألا نقبل ما يُقَدَّم لنا في خضوع أبله أياً كان مصدره. حيواتنا أثمن من أن نقبل بالعمل الخالي من الإبداع و الحب و القيمة الحقيقية التي نستشعرها و نخلقها نحن أنفسنا دون أن يفرضها علينا أحد ويسوِّغها لنا بالصور والخيالات الفارغة التي تنشرها وسائل الإعلام وغيرها من السبل الهادفة إلى السيطرة على الشعوب من أجل إبعادها قدر الإمكان عن الطريق الحقيقي. فالحقيقة لا تقوم إلا على الإبداع؛ على تفتّح العقل و القلب و العمل الدؤوب المخلص.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية