تبدو الملاحظة واقعية وفي مكانها، ففي ظروف تعاظم الدور المهم لوسائل الاتصال الحديثة التي تمطر الناس جميعا وليس صغار السن والشباب وعلى امتداد ساعات اليوم ليله ونهاره بالمعلومات والمعارف الجاهزة الموجهة منها وغير الموجهة. هل يملك الإنسان وقتا للتحليل وفرز المعلومات ، أم أنها تسبب باستقالة التفكير وتقاعد الفكر عن العمل والبحث والنقد والاكتشاف. فالأفكار كثيرة وجاهزة والمعلومات المعلبة كثيفة ومتواترة ، لدرجة تبدو الذاكرة عاجزة عن اللحاق بهذا الكم الهائل من المعلومات ومن المعرفة.
هنا نقف لنسأل عن دورنا مع الجيل، هل إمكانات الأسرة والمدرسة تسمح بالتصدي لهذه القضية وتبني تعليم التفكير كجزء من العملية التربوية؟ أم أن المدرسة محدودة الإمكانيات، والمعلم الركن الأساسي فيها يشعر بالغبن ويعاني من تسلط ظروف قاهرة تمنعه من حرية العمل وتحجز قدراته ، بالإضافة لمسألة مهمة أن المدرسة نفسها تتعرض لحملة واسعة تنتقد أداءها وتتهمها بالتقصير أثناء هذه الحرب وقبلها، ولم يتوقف الحديث عن عدم جدوى الدور التلقيني الذي يحصر وظيفة التربية في تزويد المتعلم بالمعلومات، تلك الوظيفة التي باتت لا تناسب التطورات المعاصرة، فحشو الذهن بالمعارف والمعلومات وحفظ القوانين والرسوم والمصطلحات لم يعد ذا جدوى. وهنا يمكننا القول :إن المهمة تزداد صعوبة لتنشيط التفكير عند الأبناء، فعلى المدرسة أولا التخلي عن التلقين لصبح الوظيفة الرئيسة اليوم تتمثل في تدريب المتعلم على «تعلّم التفكير» الذي يمكنه من مواصلة تعلمه تعلماً ذاتياً. وأن يمتلك القدرة على نقد الأفكار، وذلك يتحقق عن طريق الحوار والتساؤل عن التناقضات لاكتشاف الحقائق بوسائله الخاصة.
لتحقيق هذه الطريقة في التربية والتعليم لابد من تكامل الأدوار بين البيت والمدرسة مدعومة بسياسة تعليمية حازمة، فالبيت يجب أن يكون قادر على تخصيص وقت كاف للأبناء للنقاش والحوار في أي معلومة قد يحصل عليها الطفل أو اليافع، وتشجيعه دائما على السؤال، بالمقابل على المدرسة أيضا أن تتخلى تدريجيا عن التلقين، أن يتم تدريب المعلمين على طرق حديثة في التعامل مع الجيل.
في ورشات العمل السابقة لتطوير العملية التعليمية كان هذا الموضوع حاضرا بقوة وبدأت الوزارة بتغيير المناهج وبتدريب المعلمين، وكانت الأهداف والتوصيات تقول يهدف تعلّم تُعلّم التفكير إلى بناء فكر أصيل متفحص. ولنفسح المجال أمام المتعلّم للتأمل والتدقيق في فحص لمفاهيم بمزيد من الجهد والصبر، لأنّ المعرفة كما يقولون (لا تفتح أبوابها من الطرقة الأولى).
نعلم أن الحرب خربت النية التحتية لمدرستنا وخسرنا الكثير من الأبنية المدرسية والكادر التعليمي لكن مشروع تطوير التعليم والتركيز على تعليم تعلم التفكير مازلنا نملكه، ويوم تنتهي الحرب ونبدأ بالبناء يعود العمل مع المدرسة وداخلها لحماية ذاكرة وتفكير أبناؤنا بحيث يصبح المتعلم في حالة استعداد دائمة للحصول على معلومات ذات معنى ودلالة من بحر المعلومات المتاح، ويتعود أبنائنا على البحث والتأمل وتحليل المعلومات وتنظيمها ووضع أفضل الحلول لها.