تناقص عدد صفحات كتبه الأخيرة (16 صفحة أخر إصدار) فأجابه: «كلما اقتربتَ من الحقيقة لا تشعر برغبة في الكلام»! بعدها تحدث عن نزهاته الصامتة مع «جيمس جويس», مضيفاً أن أفضل أماكن نزهته كانت «مقبرة طنجة البحرية التي كان يصطحب زوجته إليها كلما ذهبا الى المغرب».
لقد ربط «بيكِت» بين الحقيقة والصمت, وهذا ما يذهب إليه المتصوفة والعارفون, حيث يعتزلون في واحات صمت بعيداً عن الناس لملاقاة الحقيقة - الجوهر.
الحقيقة مرآةٌ وقعتْ.. تفتتتْ.. تشظّتْ.. تفرقتْ.. كل قطعة من المرآة قادرة على عكس مساحة من السماء, وكل صاحب قطعة من المرآة يظن أنه يرى كل السماء, ويمسك بكل السماء!
الصمت غموضٌ.. هو كالصفر عنصرٌ ماصٌّ.. كل شيءٍ منه, كل شيءٍ إليه.. لغة تحتاج منك وقتاً طويلاً لتتعلمها وتتقنها.. في الصمت من الكلام مايفوق مرات ومرات كل ماقالته البشرية منذ نشأتها قولاً أو كتابة: فالكتابة كلام صامت!
كثيرون يكرهون الصمت باعتباره ماكرٌ يكنز معرفته وينأى بها عن العلانية!
في الكلام ترويجٌ وتسويقٌ.. والصمت يعشق عزلته.
ربما لأن ما لديك أكبر من قدرة الكلمات تصمت!
أمام الخوف تصمت! أمام الدهشة تصمت! أمام جمالٍ شاهقٍ تصمت! كل ما يفاجئ ويُربك يقود إلى الصمت!
كل الفنون صامتة, حتى الموسيقا تكتسب توازنها الزمني من الصمت, ولهذا أصبح النقد ضرورياً كما قال «نورثروب فراي» المتوفى عام 1991: «هناك سبب يجعل النقد ضرورياً هو أن النقد قادر على الكلام بينما الفنون كلها خرساء»
لهذا يكون النقد ترويجا وكشفا مكنونا, إنه بحث في صمتٍ تختزنه الكلمات, أو الألوان, أو الألحان, إنه الصمت الذي يفوق المعنى, لأنه حاضنه, الصمت حقيقة ملتبسة, مرآةُ المعنى التي وقعت وتشظّت وتبعثرت, فصار للقراءة طعم مختلف, ولكل قارئ قطعة من سماء النص الصامت, من حقيقة النص!
الصمت ليس منطقة رمادية, لأنه ليس وسطياً أبداً.. الصمت أمٌّ لكل ما يتناسل من كلام.. هو عشتار الخصب.. وتموز الأخضر.. الصمت منطقةُ عزلةٍ, ومنتجعٌ للحالمين المتأملين الذين يتقنون استعمال «رأى» القلبية!
suzan_ib@yahoo.com