وكذلك استجابة القيادة السورية لكلّ الجهود والمبادرات التي تستند إلى وقف العنف والجلوس إلى طاولة الحوار الموسّع بين السوريين ، أي الحوار السوري- السوري ، بعيداً عن أي تدخّل خارجي . وذلك بدءاً مقترحات بعثة الفريق ( محمد الدابي ) على خطّة السيد كوفي عنان ، ومبادرة السيد الأخضر الإبراهيمي ، وصولاً إلى بيان جنيف الذي شكّلت مبادئه الأرضيّة لحلّ الأزمة السورية . ولكّن كانت في المقابل ، أطراف داخلية وخارجيّة تعطّل أي جهد ومسعى لإنجاح الحوار ، لأنّ الحوار يكشف حقيقة ادعاءاتها الباطلة ، ويعرّي مواقفها التآمرية .
وعلى الرغم من ذلك ظلّ الحوار الوطني الشامل في أولويات الدولة ، باعتباره الحلّ الأمثل للأزمة المفتعلة . وكان السؤال الذي يتردّد دائماً ذو ثلاثة أبعاد ، هي : من يحاور من ؟ وكيف يكون الحوار ؟ وما هي أهدافه؟ ويأتي الجواب : الحوار مع العقلاء والشرفاء من أبناء الوطن ؛ الحوار مع من لم يتآمروا على الوطن ويحملوا السلاح ضدّ أبناء الوطن خدمة لمشاريع أجنبية ؛ الحوار المنفتح من دون شروط مسبقة وقناعات جامدة ، ورؤى مضلّلة ونيات خبيثة ؛
وهذا ما أكّده السيد الرئيس / بشّار الأسد / في خطابه التاريخي ( الأحد 6/12/2012 ) ، حين وضع النقاط على الحروف فيما يتعلّق بالحوار كمنطلق لمعالجة الجوانب المختلفة في واقع الأزمة التي تعيشها سورية . الحوار الذي يؤسّس لدولة سورية جديدة وعصرية ، ويستند إلى بعدين أساسيين ، البعد المباشر ، والبعد غير المباشر ؛
فالبعد المباشر يتمّ من خلال الاجتماعات الحوارية الموسّعة للأطياف الوطنية المتنوّعة من خبراء ومتخصّصين (سياسيين ، مفكّرين ، اقتصاديين ، ورجال دين ، وممثّلين عن قطاعات المجتمع المدني ) بحيث تفضي هذه الاجتماعات إلى رؤى وتصوّرات للخروج من الوضع الراهن والانتقال إلى المرحلة التالية ، لبناء سورية بعد اجتياز المحنة / المؤامرة التي تمرّ بها . وقد حدّدت الأبعاد الأساسية لهذا الحوار في ثلاثة جوانب :
1- مرتكزات الحوار : وتتمثّل في سيادة الوطن وكرامته ، استقلال الوطن واستقراره ، ومصلحة الوطن والمواطن .
2- شكل الدولة : مدنية ، ديمقراطية وعصرية ، ذات طابع تعدّدي وطني ، يفسح المجال أمام أبنائها الكفويئن لتحمّل مسؤوليات بنائها وتقدّمها .
3- مجالات الحوار : كلّ ما يتعلّق بأسباب الأزمة ومعالجة نتائجها ، من النواحي الاجتماعيّة والسياسية والاقتصادية .. وغيرها .
أمّا بعد الحوار غير المباشر ، فيتمّ عبر صناديق الاقتراع ، وإجراء الانتخابات الحرّة التي ينتج عنها قيادات قادرة على تحملّ المسؤولية الوطنية في مفاصل المؤسّسات الرسميّة المختلفة ، بدءاً من مجالس الإدارة المحلية وانتهاء بمجلس الشعب ، وحتى تشكيل حكومة وطنيّة موسّعة ، استناداً إلى الدستور الذي ستضعه هيئة تأسيسيّة ويتم اعتماده بعد إقراره باستفتاء شعبي حرّ ونزيه . وهنا يكون الاختبار الحقيقي لموازين القوى الوطنية وغير الوطنية ، على امتداد ساحة الوطن، والفرز الحقيقي لمن يتمتّع بتأييد الشعب السوري الوفي ، ولمن يدّعي أنّه يمثّل هذا الشعب ويمارس عليه الإرهاب ويخرّب مؤسّساته العامة والخاصّة .
واستجابة للمبادرة / الخطّة التي طرحها السيد الرئيس بشار الأسد ، لحلّ الأزمة السورية والدعوة إلى الحوار بمشاركة المعارضة الوطنية الشريفة (الداخلية والخارجيّة )، بادرت قوى المعارضة الوطنية إلى الإعلان عن قبول المشاركة في هذا الحوار ، بينما رفضته المعارضة المأجورة لأنّه يفضح مواقفها المضلّلة ، ويتعارض مع الدور التآمري الموكول إليها .أمّا في الداخل ، فقد سارعت لجان الحوار الوطني إلى عقد اجتماعها الثاني بدمشق ( 9/1/2013 ) وأكّدت أهمية الحوار في إطار الاستجابة لخطّة السيد الرئيس ، وإحياء للحوار الوطني الذي بدأ في تموز 2011 ، واستكمالاً لما اتفق عليه في مؤتمر الحوار الوطني الأول الذي عقد في إيران ، مطلع كانون الأول 2012 . كما أصدر مجلس الوزراء بعد اجتماعين نوعيين ( 9 و10/1/2013) الإجراءات التنفيذية الخاصة بالبرنامج السياسي لخطّة السيد الرئيس بمراحلها كافّة، وشكّلت هيئة موسّعة للإشراف على التنفيذ والمتابعة ، كما وجّهت الدعوة إلى كلّ الأطراف المعنية بالحوار الوطني،. فهل تستجيب القوى والأطراف المعنية وتتعاون من أجل إنجاح هذه الخطّة ؟!
إنّها دعوة للحوار صريحة وصادقة ، توجب على أبناء الوطن الشرفاء الصادقين أن يثبتوا أنّهم قادرون على حلّ مشكلاتهم بأنفسهم ، وأن يجتمعوا على قضيّة واحدة ، ويقفوا وقفة الإباء والوفاء للوطن الذي يناديهم للخلاص من جراحه النازفة ، ويكونوا على قدر المسؤولية التاريخيّة في مواجهة المؤامرة الجديدة / القديمة التي تستهدف أمن الوطن والنيل من سيادته ومواقفه القوميّة الثابتة ؟!
فهل هناك أجمل من أن يلتقي أبناء الوطن بفئاتهم وشرائحهم واتجاهاتهم الفكرية ، ويجتمعون في جلسات حوارية تحت سقف الوطن الغالي ، يظللهم علم وطني، يحدوهم هدف واحد ، هو« الحوار الوطني لبناء سورية المستقبل »؛ ولكن الأكثر جمالاً في هذه اللقاءات، أن يتبادل الجميع الأفكار والآراء بحرية تامة ، وبشفافية مسؤولة تعبّر عن شعور بأن ثمّة مرحلة دقيقة وصعبة يمرّ بها الوطن ، ولا بدّ من العمل المشترك لتجاوزها ، من الحفاظ على وحدة الوطن وقوته ومنعته في مواجهة المؤامرة التي يتعرّض .
فتعالوا واجلسوا معاً، تحاوروا واطرحوا أفكاركم وتصوراتكم بحرية؛ تبادلوا الآراء والمشاعر الوطنية والإنسانية ؛ حلّلوا الأمور وعبّروا عن قلقكم من الوضع الحالي في سورية، وعبّروا في الوقت نفسه ، عن تفاؤلكم بالمستقبل المشرق الذي ستعيشه سورية المتجدّدة ، سورية النابضة أبداً بالحياة ، سورية الحضارة والتاريخ والحضن الدافىء لأبنائها وأشقائها الأوفياء .
ومن هذه المنطلقات ، لا بدّ أن يؤكّد الحوار ضرورة التصدّي للمؤامرة التي تستهدف سورية ، أرضاً وشعباً ، والتمسّك بالانتماء إليها والحفاظ على وحدتها الوطنية بوصفها الحصن الحصين لصون الاستقلال والسيادة . كما يشدّد على نبذ العنف والإرهاب ضد أبناء الوطن ، ورفض التفرقة والتعصّب الطائفي ، مقابل نشر ثقافة المحبة والتآخي والتسامح من أجل تعزيز اللحمة الوطنية وتقوية الانتماء الوطني، وتأصيل المواطنة الصالحة . وهذا يحتاج إلى المصالحة الوطنية والشعبية ؛ مصالحة أبناء الوطن مع وطنهم، ومصالحة أبناء الوطن فيما بينهم . لأنّ الوطن يحتاج إلى أبنائه ليكون قوياً منيعاً ، والأبناء بحاجة إلى وطن حرّ كريم ليعيشوا أحراراً أعزاء؛ وبالتالي فإنّ كرامة المواطن من كرامة الوطن ، وأمن المواطن من أمن الوطن .
وفي هذا الإطار ، يجب التأكيد على المواطنة التي تستند إلى محبّة الوطن ومحبّة الآخر ، الشريك في الوطن . لأنّ «محبة الوطن من الإيمان » ، والمواطنة الحقيقيّة تتجلّى في العمل الصالح، والانتماء الحقيقي للوطن ، لا فرق في الطائفة والدين والمذهب: “الدين لله والوطن للجميع”. وهذا يقود إلى محبّة الآخر ، الآخر الذي يعيش معنا في هذا الوطن ، والذي يوجب علينا أن نحترمه ونتحاور معه على أساس الحقيقة التي تتسم بالصراحة والتواضع، والإرادة الصادقة للوصول إلى الهدف المشترك.
هكذا يبنى الوطن بمحبّة أبنائه وتعاونهم ، وليس بالحقد والقتل والتدمير ؛ هكذا يحمي أبناء الوطن صرحه المقدّس من كلّ تدنيس أو عدوان ؛ هكذا ينعم الوطن بالأمن والاستقرار ، ويعلو بناؤه ويشمخ .