والتي لاتفسح مجالاً للإنسان بلحظة تأمل واحدة. يقول كونديرا: (من الذي حلم؟ من حلم بهذه القصة؟ من تخيلها؟ ما هي البرهة الدقيقة التي تحول فيها الواقع إلى لاواقع، الحقيقة إلى حلم؟ أين كانت الحدود؟ أين هي الحدود؟). وهنا ينهي كونديرا بحثه عن الهوية، فلا يرمي الشخصيات في الهلاك على طريقة كافكا اللعينة، بل يصور لنا العاشقين في زاوية، يضيء وجهيهما نور مصباح صغير، وشانتال تقول: «لن تفلت من نظري. سأنظر إليك دون انقطاع». ثم تضيف: «أخاف حين ترف عيني، أخاف أن تندس، خلال هذه الثانية التي تنطفئ فيها نظرتي، مكانك، أفعى، جرذ، رجل».
وهكذا نجد خروجاً موفقاً وقسرياً من العالم الكافكوي، لينفرد كونديرا أخيراً بعالمه الخاص، خارجاً من سيطرة نهايات كافكا الفجائعية والعبثية.
طوقت الفلسفة الرواية بشكل كبير بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تعد الرواية الكلاسيكية تحمل معنى يهم الناس، في عالم لم يعد عالمهم المأمول. لقد تغيرت الكتابة، ولم تستطع العبارات القديمة، برومانسيتها وتفاؤلها الساذج، أن تقنع القارئ الجديد، الذي نجا من حرب همجية، قادها العالم المتقدم ضد نفسه.
انتقمت الفلسفة من الحرب، وانتقمت الرواية من الشخصية الحربية العدوانية المحبة للسيطرة والعنف، فيما ذهب الشعر إلى الانتقام من الجميع، بحجة أن العالم الذي لا يغيره الشعر، هو عالم فاقد للحياة. إذاً، فالعالم لم يعد مكاناً صالحاً للعيش.
قبل الحرب التي دمرت مكانة العقل الأوروبي، كتب هرمان هسه روايات تتحدث عن الإنسان في صيغة بحثه البسيط عن وجوده. ففي روايته الأولى (بيتر كامينزند) التي كتبها عام 1904 نجد البطل هائماً لمدة على وجهه، لا يشعر بالراحة والاستقرار، يفتش عن طريقة لإثبات نفسه. تسيطر الحالة الطبيعية على البطل فيعود إلى قريته وباشر العمل في الزراعة. أما في رواية (تحت الدولاب) فإن مقت التعليم التقليدي والسكونية تجاه الواقع التلقيني، هي المشكلة التي يعالجها هسه، مبرزاً التناقض بين الطبيعة والتأثير المدمر للحضارة الحديثة، أي ما بعد الصناعة.
بعد الحرب العالمية الأولى، تخرج رواية هسه الجديدة (دميان)، كصرخة على همجية الحضارة الغربية. ويخرج شيطان فاوست من دميان، ويبدأ بمحاولة جمع شقّي العالم: الخير والشرير.
يتجاوز هسه - في روايته دميان - معلمه الأثير غوته في طروحاته وفي شياطينه، ومن ثم وفي روايته (ذئب السهوب) يتجاوز صديقه الحميم توماس مان في أسلوبه السردي الفاتن، مع أنه يتابع طرح المشكلة الفاوستية، وينهال على الغرب الكاذب والممعن في قتل نفسه وتفتيت قواه بغباء.
ذئب السهوب، هو إنسان يبحث عن قيمته، وينزع إلى كمال فعاليته، ويناضل بقوة ضد الثوابت العقلية التي لم يبرهن على إدراك أسبابها. وكأن هرمان هسه في هذه الرواية، يوافق نيتشه على أن العالم الداخلي مليء بالأشباح،
والذئب هو أحدها: هو إنسان يتخذ موقف الرفض الكلي للعالم، كما فعل نيتشه وكيركيغارد. هذا الرفض العنيف والإنساني، يقترب من - ويتطابق إلى حد ما - مع رفض نيتشه، لأن إنسان كيركيغارد يقطع الأمل بأي إنقاذ أو مدد أو قوة أعلى من قوة الرفض. أما إنسان نيتشه فإنه يأمل في عالم أعلى، ويود لو يحلق في أبعد فضاء، كما عند هسه.
في عمله الأخير العملاق (لعبة الكريات الزجاجية) 1943 يستخدم هسه أدواته الفلسفية والنفسية الأولى، مع تركيز شديد على الزهد الروحي الذي يصعد من قلب رماد حضارة حديثة دمرها إنسان غير مسؤول وقوميات ضيقة وعسكر متعجرفون، تمثلوا في صعود النازية المنقلبة على تاريخ ألمانيا المليء بالمفكرين والعباقرة الكبار.
عاصر كافكا هرمان هسه وتأثر به، وشرع في قراءة نيتشه وسبينوزا وداروين، قبل أن يصبح في العشرين من عمره، بدأ بكتابة رواية (الطفل والمدينة). تأثر كافكا بكتاب كبار مثل بايرون وفلوبير وتوماس مان وتولستوي ودوستويفسكي. جاءت كتاباته خليطاً موفقاً وساحراً من الفلسفة والأدب. وفي أحد صالونات براغ التقى آينشتاين، فشغلته النظرية النسبية وتعمق في قراءتها، كما التفت إلى فهم نظرية الكم لماكس بلانك، ونظرية الأعداد النهائية لكانتور. ولم يتوان عن الغوص في فلسفات هيغل وكانط وفيشته، إضافة إلى تعمقه في التحليل النفسي لفرويد.
هل يمكن أن يقال عنه إنه قارئ من الطراز الرفيع؟ هل أودته الفلسفة إلى دمار متعة الأدب؟
قيل عنه إنه قارة أدبية هائلة، وكاتب القرن العشرين، والمؤسس لدين جديد في الأدب. ومع ذلك فقد أسيء فهمه، واعتبر كاتباً برجوازياً من أتباع مذهب العدمية، ونعت بالمتشائم وأُنكرت واقعيته. ومع ذلك كله فقد وصفه أحدهم: (ربما تكمن قوة تفجير كافكا الفكرية، في كونه الشاعر الذي يمكنه أن يكشف للقارئ مدى استلاب حياته وانفصام نفسه).
في إحدى رسائله كتب كافكا: (ليس لدي اهتمام أدبي، وإنما أتألف من أدب. لستُ شيئاً آخر، ولا أستطيع أن أكون شيئاً آخر). إذاً، هو يعترف بأنه أديب في الدرجة الأولى والأخيرة، والفلسفة والعلم يرفدان هذا الأدب، ويعمقانه ويزيدانه وهجاً. وهذا الأدب وتلك الفلسفة وذاك العلم، لا ينفعون شيئاً إذا لم يكن الكاتب إنساناً، فقد قال كيركيغارد للتعبير عن القيمة الحقيقية للكتابة: (من السهل أن أكون مفكراً، ولكن ليس أن أكون إنساناً). ويبدو أن كتّاب ذلك العصر الإنسانيين، كانوا متفقين على تلك العبارة، إلا أنها خرجت أولاً من كيركيغارد، وأصبحت له.
احتشدت مجموعة كبيرة من الأسماء، رفضت العالم، إما عن طريق الشعر المفكرن، أو بواسطة الرواية الفلسفية، وبرز بينهم فوكنر وبروست وجويس، وأخيراً أرنستو ساباتو، الذي هزته الحروب العالمية، وغيرها من المآسي التي عرفتها الإنسانية في النصف الأول من القرن العشرين. كل ذلك ترك أثراً عميقاً في ساباتو وزرع فيه الكثير من التشاؤم وعدم الثقة في الإنسان. يقول: (إن نفسي ترتعش حين أرى البشر منخرطين في سباق يبعث على الدوار وقد أصابهم الرعب، فلا يعرفون أين هم ذاهبون ولا حتى تحت أي راية ينضوون، في خضم صراع لم يختاروه).
العالم ليس سوى كابوس في أعمال ساباتو، والبشر ليسوا سوى آلات تسير بلا هدف، والمجتمع مريض بأكمله. الإنسان الحالي - حسب ساباتو - هو الكائن الأكثر شؤماً بين جميع المخلوقات. والمخرج الوحيد لهذا الإنسان أن يقاوم من أجل العدالة، لأنه (لا يمكن لأي رجل عاقل وشريف ومحترم أن يدعم الظلم بأي شكل من أشكاله).