( بالرغم من أن ثيو سيديديس لم يكن يستطرد في الحديث ليلقي موعظة أخلاقية أو سياسية وما كان يحاول أن يدخل إلى قلوب الرجال بأكثر مما تسمح به وقائع الأحداث,فهو أعظم مؤرخ سياسي على مر الزمن,وما دفعني إلى اعتباره كذلك أنه كان شديد الحرص في اختيار موضوعه والعناية بالتعبير والتأني في إصدار الأحكام ما جعل مستمعه شاهدا على الأحداث التي يرويها,ومن ذلك أنه يضع قارئه في اجتماعات الناس ومجالس الشيوخ وهم يتداولون شؤونهم,كما يجعله حاضرا مظاهرات الناس في الشوارع,وفي ساحات القتال حيث تدور المعارك).
قدم ثيوسيديديس لأثره الهام( تاريخ الحرب البيلوبوثيزية) بأنه أراد أن يجعله مرجعا للبشرية عبر العصور والحق أنه ما من حرب قبل هذه التي عرض فيها للصراع الدامي بين أثينا وإسبارطة ولا بعدها عرفت إلا بفضل الرجل الذي أرخ لها,لأنه قدم أول تحليل سياسي وأخلاقي للسياسة الدولية وعرض لمصالح الدول وتناقضاتها وللتحالفات التي كان ما إن تقوم حتى تنهار,لتقوم محلها تحالفات أخرى,وتجعل من عدو الأمس صديق اليوم.
والمساهمة الهامة التي قدمها ثيو سيديديس هي دأبه على استقصاء أحداث تلك الحرب الكبرى وتفاصيلها عن الجانبين المشاركين في ذلك الصراع الدامي الذي دار بين القطبين عظميين في ذاك الزمان,كان بذلك أول راثد محقق في تدوين التاريخ بصورة موضوعية إذ يوازن بين الأطراف دون أن يسمح الهوى أن يطغى عليه,وينال من استنتاجاته أو القوانين العامة التي بلغها في مؤلفه وهذا ما جعل علماء التاريخ يعدونه مرجعهم الأول في التاريخ وقواعد الكتابة التاريخية.
وكانت مأثرته الثانية أنه رأى التاريخ محكوما بقوانين تقبل التعميم وليس رواية أحداث تعرض في زمان أو مكان معينين ثم تغيب ولا يبقى منها سوى الرواية ولذلك صار كتابه هذا الأساس لما يعرف اليوم بالمدرسة الواقعية في علم التاريخ وجعل هذا العمل الرائد موضع اهتمام بعيد صدوره حتى اشتهر وذاع صيته منذ ذلك الحين لا يعرف الكثير عن حياة ثيو سيد يدس سوى ما أشار هو إليه في سياق تاريخه وبعض من كانت لهم صلة به وهي إشارات مقتضنية تفيد باسم والده أولوروس ويرجح بأنه تراقي الأصل من ناحية الأم ويتصل قرابة بالسياسي والقائد العسكري ميليتا ديس الشهير الذي تزوج بابنة امير تراقي يحمل اسم أولوروس وكان ثيو سيد يديس ذاته يملك بعض الأحيان في تراقية ومنها حق التنقيب في مناجم الذهب قبالة جزيرة ثاسوس ويخربنا أنه كان ذا شأن هناك ,كذلك عرف عنه أنه عين في منصب عسكري كبير عام 424 ق.م,كما عرفنا أنه قد أصيب بالوباء العظيم الذي اجتاح أثينا ما بين 430 و 429 ق.م لكنه شفي منه ووصف آثاره في تاريخه,وكان من بين الأعضاء العشرة في مجلس الحرب وتولى قيادة الأسطول في منطقة تراقيا ومقره ثاسوس,لكنه أقصي عن مهامه وحكم عليه بالنفي حين فشل في منع القائد الأسبارطي برا سيداس من الاستيلاء على مدينة امفيبوليس الهامة وقد أتاحت له حياة المنفى فرصة تفرغ لكتابة تاريخه دون عوائق والاتصال بالبلبو نيز وحلفائهم ليجمع الأخبار ممن شهدوا الحرب.
استمرت فترة النفي ما يقارب عشرين عاما وانتهت بسقوط اثينا عام 404 ق.م ولا يعرف متى توفي ولا كيف انتهت حياته على وجه التحديد, هنالك من يذهب إلى أنه قتل في الاضطرابات التي اندلعت بعد عام 404 ق.م حيث تنقطع رواية تاريخه فجأة وكان يريد أن يكمله ببحث أحوال أثينا وأثرها في الحرب,فبقي بحثه بلا تكملة أو خاتمة وكان من يزر أثينا في القرن الثاني الميلادي ير ضريحه هناك.
بعد هذا ( الكتاب-التاريخ) من ضمن الكتب المئة الأساسية في الفكر الإنساني شأنه في ذلك شأن كتاب هيرو دوت والألياذة والأوديسة وما زال حتى الآن مرجعا أساسيا في مناهج الجامعات في الغرب بسبب شموله حيث يعد أيضا صاحب الريادة في بحث أثر طبائع الأمم في الاستراتيجيات والتكتيك.
في إحدى المناسبات النادرة التي يتحدث فيها ثيو سيديدس عن نفسه كتب قائلا:( لعل كتابي في التاريخ يبدو صعب القراءة لافتقاره إلى عنصر الرومانسية المشوقة ولكن حسبي من ذلك -على كل حال- أن يجد في كلماتي فائدة اولئك الذي يسعون إلى استيعاب أحداث الماضي والتي سوف تتكرر في وقت من الأوقات في المستقبل,مادامت الطبيعة البشرية على ما هي عليه.
إن كتابي هذا ليس بالكتاب الذي يلائم قراء اليوم إذ قصدت به أن يدوم إلى الأبد).
شيشرون قال ذات مرة:( إن من لا يقرأ التاريخ يبقى طفلا).
كذلك كلما قرأنا أكثر في التاريخ بأنه بكل إصرار وخبث يعيد نفسه مع تغيير قليل في أرديته ليلعب لعبته الشهيرة:
تمويه..توريه..اختباء..ظهور..مباغتة...كما أكد ثيو سيديديس له مناهجه وغاياته.
الكتاب:ثيو سيديديس
الكتاب:تاريخ الحرب البيلوبونيزية
ترجمة:دنيا الملاح-عمرو الملاح
الناشر.المجتمع الثقافي-أبو ظبي
قطع متوسط 750 صفحة