تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أوتار...الكتابة رؤية ما لا يرى ووصف ما لا يوصف

آراء
الاربعاء 4/7/2007
ياسين رفاعية

لم أهتم أبداً, في كتاباتي الأدبية, بما كان يسمى (العقدة الروائية) عندما يحرص أي كاتب على إنشاء عقدة في روايته,

إنما يفتعل الكتابة, فالرواية ابنة الحياة, وكتابة الرواية ليست تفصيل بدلة على قد الجسم أو فستان يشد نفسه على جسد امرأة. عندما كتبت رواية (وميض البرق) كان شاغلي فيها أن أكتب ما أحس به, وما يخطر على بالي في لحظات الهروب من ضغط الزمن, الذي يشغلني أيضاً في كل ما أكتب. الرواية, القصة هي التقاط ما يشغلنا في هذه الدنيا, وكنت قد نشرت على غلاف روايتي تلك عبارة الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف التي قالت: (.. كم يأخذني الضجر من القصص, وكم أرتاب في خطط الحياة التي ترسم على الورق مرتبة منسقة). ثم تتساءل: هل العقدة الروائية مهمة? إن الغاية من الحبكة هي الغاية التي تثير انفعالات ومشاعر القارئ, لكنها في الحقيقة ليست ضرورية أبداً, إنها لا شيء, وليس ثمة ما يدعو الروائي إلى إزعاج نفسه بخصوصها واختلاقها, وتنميقها بطريقة مصطنعة. إن كل لحظة هي مركز ومكان التقاء عدد لا حصر له من الأحاسيس التي لم يفصح عنها بعد. الحياة تظل دائماً أغنى منا نحن الذين نحاول التعبير عنها.‏

إنني أقرأ كل أسبوع رواية وأحياناً روايتين, فأشعر في كثير منها كم هي مصطنعة, وكيف يحاول الكاتب ترتيب الأحداث على نحو يشعرني فيها بالملل. ربما, في الغرب, خصوصاً الكتاب الكبار قد انتبهوا إلى هذه المقولة, فنجحوا في كتابة الرواية التي هي ابنة الحياة أولاً وأخيراً. ونلاحظ أيضاً من هذه الروايات عندما أصبحت أفلاماً سينمائية, كيف نجحت أكثر مما هي في الكتابة, ذلك, لأنها كانت قطعة من الحياة دون فذلكة أو مواربة, وتستمر فرجينيا وولف, التي انتحرت في الخمسينيات من القرن المنصرم في فهمها لروح الرواية, فتشير أنه لأهون ألف مرة على الروائي أن يصف حدثاً ما: شجاراً ينشب بين شخصين في الشارع مثلاً, أو معركة حرب, أو مغامرة حب من أن يصور لا شيء, والفراغ الذي تتكون منه حياتنا عادة, ساعات العمل رتيبة, أحاديث تافهة يتبادلها الناس في زياراتهم التقليدية, النزهة البسيطة التي نقوم بها أحياناً, إنه في هذه الحال مضطر إلى رؤية ما لا يرى ووصف ما لا يوصف, وهنا تكمن البراعة الفنية حقاً, وبالفعل فإن إدراك الأحجام الكبيرة سهل للغاية, ولكن الإحاطة بالذرات المتناهية الصغر تحتاج إلى عيون خبيرة, هي عين الكاتب, هذه الذرات المتناهية لا يراها الإنسان العادي والكاتب العادي أيضاً (تصوروا أن عندنا في سورية 500 كاتب منتسب إلى اتحاد الكتاب العرب.. لا نعرف منهم ولو بعدد أصابع اليدين).‏

إن التقافز فوق مراحل الوقت بسرعة لمن أيسر الأمور, لكن الصعوبة - الكلام هنا لوولف - هي أن ندع الوقت في السرد الروائي يجري ببطئه المعهود, وأن نتركه يأخذ مداه الطبيعي.. يجب على الروائي إذاً أن يخلق الأساليب التي تتيح له أن يعبر بحرية وملء عقله عما يريد التعبير عنه, يجب عليه أن يملك الجرأة في أن يعلن صراحة أن الأغراض الخارجية لم تعد تستوقفني, وأن ما يهمني يكمن هناك في الأعماق, في مناطق النفس الغامضة.‏

عندما كتبت مجموعة (العصافير) والتي طبعت أربع طبعات, آخر طبعة السنة الماضية وأصبحت تدرّس في جامعات بيروت وتونس (دون أن تدري بها جامعاتنا) قدمها الأساتذة على أنها من أرقى ما كتب في القصة القصيرة العربية على الاطلاق, وقال عنها الكاتب الكبير المرحوم جبرا ابراهيم جبرا: (العصافير من أجمل وأبدع ما قرأت منذ زمان, أصيلة, عميقة الإنسانية, فاجعة, تترك أثراً معقداً وطيباً في النفس, كأحسن الشعر) ومنذ صدرت إلى اليوم تثير أقلام النقاد, ومؤخراً تقدمت الطالبة علا خوري في جامعة القديس يوسف في بيروت برسالة ماجستير عنها وعن روايتي (الممر) التي كانت أول رواية تكتب عن الحرب الأهلية اللبنانية.‏

أردت أن أذكر شيئاً من هذا لأقول: إن كل شيء يصلح مادة للقصة, كل شعور كل فكرة, كل حالة داخلية, كل رؤية حسية, إن هدفنا الأول هو تصوير الحياة البشرية لا اللحظة الحاسمة فحسب, بل نمو الأزمة وتطويرها إلى أن تبلغ الذروة, إن أقصى غاياتي ككاتب هو مجاراة التوقيت اليومي, وملاحظة تعاقب الأمور العادية حتى بلوغ اضطراري إلى كتابتها, وإلى تدبيج فصولها والإسهاب في استلهام الحدث, وتكريس ساعات طويلة في العمل.. لا أكتب للتسلية, إن كتابة صفحة تستهلك مني وقتاً طويلاً جداً قبل أن أرضى عنها, الكتابة معاناة حقيقية ولكن لا يعانيها بين مئة كاتب إلا كاتب واحد, لذلك تجيء كتاباته عميقة تثير الكثير من المشاعر لدى القراء.‏

إن التفاصيل الدقيقة والوقائع الصغيرة وأسخف الأعمال وتذوق قطعة كاتو, من اللاشعور تتوالى سلسلة الأفكار والأحاسيس مثل ركوب مصعد كهربائي, هذه الآلة التي تصعد بنا إلى أعلى ناطحة سحاب في العالم بكل ارتياح, ذات يوم شغلتني أفكار عدة وأنا صاعد فيها إلى الطابق الخمسين أو نازلاً منها, وتشكلت لدي قصة قصيرة لا بأس في أن أرويها لكم:‏

(عندما فتح باب المصعد في الطابق العاشر, فوجئ الرجل الملتصق في الزاوية بامرأة, وجهها عينان تبرقان نجوماً نجوماً, شعرها حدائق, فمها نداء, جسدها يشتعل ثلجاً أبيض, كانت ترتدي فستاناً سماوياً مكشوف الظهر.‏

تطلعت إلى ساعتها, ثم ضغطت زر المصعد, كانت سعادتها تعبق مع عطرها داخل جدران المصعد الهابط ببطء, توقف المصعد في الطابق السابع دخل رجل سمين في الخمسين من عمره, كان متعب الوجه منهكاً, ترافقه امرأة سمينة مثله وحمراء كشمندرة, ضغطت المرأة الشمندرة الزر ثم قالت للرجل: هذه المرأة تعذبك كثيراً ياأخي. أجابها بصوت متهدج متقطع: إنها أم أولادي على أي حال. أخرج الرجل لفافة تبغ وأشعلها, وفيما هو ينفث دخانها للوهلة الأولى, حملته عيناه إلى الربيع المتألق في الزاوية, فأشرقت في وجهه شمس من الدعة, وهمس بصوت مسموع: (الحياة جميلة).‏

توقف المصعد في الطابق الرابع, دخل شاب متأنق, تكاد الدنيا ترقص في خطواته, لفتت المرأة الجميلة نظره مباشرة فأسرع يصلح من ربطة عنقه, برقت عيناه, ثم تحولتا إلى نظرات حالمة, خطا خطوة أخرى حتى كادت كتفه تلامس كتفها, تنشق عبير عطرها طويلاً ثم قال مخاطباً الرجل الخمسيني: درجة الحرارة مرتفعة اليوم, إنه الصيف. حاول الشاب مرة أخرى, بشكل ما, أن يشعر الفتاة الجميلة بوجوده, لكن هذه كانت تلاحق عقارب ساعتها قالت المرأة السمينة مخاطبة الكهل:‏

- يجب أن تراعي صحتك من أجل الأولاد.‏

تحولت عينا الهرم نحو الفتاة البيضاء, وقد بدا للرجل الوحيد في الزاوية أن عمراً جديداً قد دخل شرايين الرجل الذي أجاب المرأة السمينة للتو:‏

- صحيح.. سأفعل ذلك من أجل الأولاد.‏

تأمل الرجل الوحيد شعلة الضوء من جديد, كانت ثمة شجرة فرح تنفتح أزهارها في وجهها.‏

تنحنح الشاب ثم قال:‏

- المصعد اختراع جميل, فيه على الأقل يتعرف سكان البناية بعضهم إلى بعض.‏

عمد أن يكون كلامه موجهاً إلى الفتاة التي بدت الآن أملاً وحيداً إلى سعادة لا مثيل لها, لكن المرأة ظلت مشغولة بأشياء أخرى لا علاقة لهم بها.‏

عندما توقف المصعد في الطابق الأرضي, نظرت المرأة إلى ساعتها, فتح الشاب الباب وقال بخفة ظاهرة:‏

- تفضلوا.‏

خرجت المرأة السمينة أولاً, ثم الشابة الجميلة, تبعهما الكهل, فالشاب, ثم خرج الرجل الوحيد بطيء الخطوات.‏

أسرعت الفتاة الجميلة صوب الشارع العريض مشيرة إلى سيارة أجرة, فيما انحرف الرجل الكهل إلى يمين البناء وإلى جانبه أخته, أما الشاب فقد ظل لحظات يراقب الفتاة حتى غابت في داخل عربة الأجرة, لاحقها بعينيه حتى اختفت في آخر الشارع, تنهد بصوت مسموع, ثم ركض لاحقاً الباص, ظل الرجل الوحيد في مكانه لحظات طويلة يحدق في فراغ ما, ثم ابتلعه الزحام).‏

هكذا يمكن للكاتب أن يلتقط من الحياة مادته, وهي كثيرة جداً, وهذه القصة بطلها: الزمن, المصعد, وليس الأشخاص.‏

والكاتب قادر من خلال موهبته أن يتمثل كل الحياة والناس والنساء خصوصاً, إن الكائن البشري نصفان ذكر وأنثى يقتضي اكتناه جوهره إذاً في الإلمام بأسرار هذين الطرفين, اللذين يشكل الجهل بأحدهما معرفة ناقصة مبتورة وهي نصف معرفة.‏

وبما أن العلم الوحيد الحقيقي هو الحدس الباطن, هو الإدراك الذاتي, هو الوعي من داخل, فإن فهم الطبيعة البشرية يتطلب الإنسان أن يكون رجلاً وامرأة في آن معاً, لكي تتعمق مشاعر الرجل وأحاسيسه يجب أن يختبرها ويعيشها بنفسه, ولكي يتمعن انفعالات المرأة وانطباعاتها يجب أن يجربها ويعانيها شخصياً, وهذا ما يصبح مستحيلاً ما لم يكن ذا طبيعة جنسية مزدوجة تستطيع أن تعيش التجربة البشرية بكل تنوعها وغناها وبوجهها المذكر والمؤنث معاً, فلا يبقى ثمة خلجة نفس واحدة مجهولة لديها, ولا خفقة قلب صغيرة غريبة عنها.‏

***‏

من ذاكرة الصبا‏

الملم الطوفان من أكواخ الذاكرة‏

شجراً ينزف دماً ووجهك لا يفيق‏

تلك أصابعي تشتعل شموعاً وتذوب‏

وها ندوب قلبي تتفتح للريح والنار ولا وجهك يجيء‏

إنني أموت ساعة بعد ساعة‏

وشعرك يتطاير وراء السفوح والتلال‏

آه.. فلا ثمرة تصل الفم.. ولا قطرة ماء تسكن الشفاه‏

أرمل الشمس أنا واختناق الغريق‏

فوراء فسحة عينيك أستيقظ من الوجد والخوف‏

واتغلّف بالجموح النادر‏

وسوّسة النحل داخل تجاويف الأذن وتحت رحيق العذاب‏

استيقظ شيخوخة ولا عصا تحت يدي‏

تعليقات الزوار

أيمن الدالاتي - الوطن العربي |  dalatione@hotmail.com | 04/07/2007 00:59

من العنوان بدأنا بالخطأ!! فرؤية مالايرى اعتقاد خاطىء من الكاتب لأن الكثير من العامة يمكن أن يروا نفس مايراه الكاتب وأكثر إنما ليسوا بموقع عام يسمح لهم بإعلان رؤيتهم,وأخطأ الكاتب أيضا عندما خص الكاتب فقط بالقدرة على تمثل الأشخاص, فألغى الواعي والفهمان والموهوب والفضيل والمثقف. أعتقد أن كاتبنا قبل أن يكتب مقالته أو بعدما يكتبها ربما ينظر فقط في نفسه فلا يرى مايعيب أو ماسيعيب مقالته فيدفع بها للنشر واثقا.

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية