تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


طبيب مقيم

ملحق ثقافي
2018/6/26
صديقة علي

أثار فضولي العجوز، الذي اشمأزَّ من رائحته بعض العاملين في المشفى، وتركوه وحيداً في سريره، دنوت منه أكثر، لأتفحص وجهه جيداً، بعد أن وضعت على أنفي كمامة، ولبست قفازات، احترت من القذارة التي هو فيها.. أظفاره تخبأ تحتها وسخ العمر، طبقات من الأتربة السوداء سمَّكت كعبيه، حتى أنك تظنها جزءاً من جلده المشقق، رقبته النحيلة خبأت القسم الكبير من الدهون السوداء في تجاعيدها.

أكثر ما يقزز النفس رائحة البول الجاف الممزوج برائحة عرقه الرطب المتبقع على سرواله، رائحة تجعلك تشعر برغبة بالإقياء. كل شيء فيه يدعوك للنفور ما عدا وجهه، حليق الذقن، نظيف العينين، حتى شعره الأبيض الملوث ببعض الأتربة لا ينمّ على أنّ هذا الرّأس النَّظيف لذلك الجّسد.‏

**‏

أخذتِ الممرضات يتهرَّبن من خدمته فغادرن غرفته بسرعة.‏

من أسعفه قال أنّه وجده بالطريق، وقد أُغمي عليه.‏

عندما خلعت عنه سترته، فاجأني هاتفه النقّال كان من أحدث وأغلى الأجهزة، ظننته حرامياً، ما أن نظرت الى الجيب الداخلي، ووجدت نظاراته والجريدة الملفوفة بعناية المتشربة عرقه وعفونة تمحي أخبارها العريضة، حتى استبعدت هذا الاحتمال المهين، تناولت هاتفه بحذر مع محاولتي ألا أقلق نومه ووضعته تحت وسادته خشية أن يُسرق منه.‏

**‏

كان ضغط الدّم عنده طبيعياً، والأكسجة طبيعية وحتى تحليل الدم كل شيء فيه ضمن الحدود الطبيعية إلا نظراته، وهي تتفحصني، والتي كانت تقول مالا أفهمه.. عافت نفسي المكان وهممت بالخروج.. لكن استوقفني سؤاله:‏

-هل أنت طبيب؟ قالها بهدوء وبلغة سليمة واضحة لا يشوبها ضعف.‏

_نعم أنا طبيب. قلتها ولعنت بسرّي اللّحظة التي اخترت فيها هذه المهنة.‏

_ لا بد أنكم تتأففون مني لكنّ هل يوجد حمام هنا، هل تكلف أحدهم كي يساعدني لأستحم. مضى وقت طويل ولم أغتسل.‏

- أتعيش لوحدك؟ قلتها ولم أحتج لكثير من الذكاء لأكتشف ذلك.‏

-لا..أعيش مع خوفي.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أدهشني رده، كما أذهلني طلبه، ونفى تماماً احتمال أن يكون لصاً. تأملته قليلاً شعره الأبيض المصفر وجبهته التي خط عليها الدهر كل ما استطاع من أخاديد عمره يقارب السبعين عاماً تأبط سترته التي تشير إلى عز قديم ببطانتها الحريرية.‏

_مما تخاف؟‏

_من الموت وحيداً. أجابني على الفور. أجوبته لا تنسجم مع هيئته البائسة.‏

_كم عمرك؟‏

سألني بعد أن أصبحت بباب الغرفة. فاجأني سؤاله كما كل شيء فيه.‏

-سبعة وعشرون عاماً.‏

-كما توقعت.. كان ابني بعمرك؟‏

أجبته بتلقائية: كان؟؟‏

لا حول ولا قوة إلا بالله، قلت في نفسي إن كان ابنه ميتاً سيصعب علي تركه وهو يسرد لي حزنه على ولده.. أريد أن أخرج من هنا بلا تأنيب لضميري، لأنني أرهقت بقصص الفقد للأبناء في ظل هذه الحرب المجنونة.‏

خرجت بسرعة لأستنشق الهواء النقي.. ونقلت للمرضات رغبة العجوز بالاستحمام.. منهن فغرت فاها لهول المفاجأة وبقيت شاخصة بصرها بي والأخريات تعالت ضحكاتهن وكأنني رويت لهن فكاهة.. أما الأطباء فقذفوا بكل تعبهم على شكل شتائم.‏

قال المستخدم المتعجرف: من هذا؟ أيظن نفسه في فندق خمس نجوم ومن سيكسر نفسه ليساعده؟ هل أتى ليترك براغيثه علينا؟‏

عجبت لردودهم من ساخر وساخط ومستنكر. لم أر الشفقة على وجه أيٍّ منهم، ما عدا تلك الممرضة التي لازالت فاغرة فاها وصامتة لشدّة دهشتها، على كل الأحوال كانت مشهو رة بدهشتها فهي تندهش إن لم يحدث أمر يدهشها كل يوم.‏

عدّت الى العجوز وأنا مرتبك كيف سأخبره بأنه لن يجد من يساعده بحلمه هنا.‏

_لا تقلق يا بني ولا تتأفف.‏

كيف قرأ أفكاري؟ هذا الرجل أذهلني.‏

عدلَّ من استلقائه، وسحب سترته بهدوء، بيد مرتجفة مد يده ضمن سترته، ليقلب الكم على سحاب طويل يغلق جيب داخل البطانة، يمتد من كتف السترة الى أسوارة المعصم، ثم سحب رزمة من أوراق مالية وقال بلهجة آمرة أبوية: (اعطِ هذه لمن يساعدني بالاستحمام، اشترِ لي ثياباً نظيفة أولاً). قالها بثقته من وجود من سيساعده. أخذت النقود بتردد، لكن لا يمكنني الرفض، فهو لم يتوسل إلي، بل قالها وهو واثق أنني لن أرفض طلبه.‏

وأنا في حيرة من أمري، رن هاتفه، فابتسم وهو يرمقني: هذا ابني.‏

قلت في نفسي الحمد لله هو حي إذاً.‏

_ أهلاً أهلاً...لا..لا أنا بخير، والرجل يهتمّ بي، جيداً.. اطمئن يا ولدي.. كل شيء على ما يرام...أنا؟‏

جال بصره في المكان وهو يبحث عن تسمية لمكان تواجده وتابع مرتبكاً: (الآن انا في الحديقة).‏

أنهى محادثته بصوت يصطنع الفرح، وبطفولة بريئة قال:‏

_ عذراً.. مرغم أنا على الكذب.. العجوز الذي يكذب على ولده كي لا يقلقه، هو رجل صادق أليس كذلك؟ وضحك ضحكة حزينة كطفل قبض عليه متلبساً بكذبته.. جعلني أشفق عليه، وتلاشى النفور تجاهه بل وضعت أبي مكانه.‏

استمر في حديثه بهدوء بعد أن اخترق نظره النافذة إلى السماء، وكأنه يناجي ربه، لا كمن يتكلم مع طبيب مقيم، يستعجل الساعات كي ينهي عمله.‏

عَلت نبرة صوته، وحوّل نظره إلى عيني مباشرة، وأخذ يلوّح بعصبيّة واضحة بقبضته الممسكة بإحكام بهاتفه النقّال:‏

الرجل الذي يسألني عنه ابني.. مجرم، قليل الأصل، جاحد نفض أصابعه بخفّة كمن ينثر ماء عالق على كفّه. وتابع بصوت يكاد أن يكون باكياً خائفاً: لقد سجنني في الحمام عارياً.. وسرق كل ما استطاعه.‏

صمت قليلاً يحدق بقضبان السرير وتابع بصوت رجل حكيم:‏

ما استغربت لصوصيته، أغلب الناس تحولوا إلى لصوص، ولكلٍ مبرراته، بل استغربت انعدام الرحمة من قلبه وانعدام ضميره.‏

ألم يفكر كم خفت؟ كم تعذبت؟ مضت ساعات طويلة وأنا خائف ألا يُعثر على جثتي إلا بعد تفسخها، فكرت بابني، كم سيحزنه ذلك، كم سيحرقه الندم، وأنا لا أريد له هذا العذاب. الحياة مع الندم جحيم يا ولدي.‏

قلت له بصوت مخنوق يكبت صوت الدمع بداخلي: وكيف خرجت؟‏

- بعد ساعات طويلة، شعرت وكأن الأوكسجين قد نفد من الجو، كان غضبي من سجّاني قد همد، لذلك بدأت أفكر بهدوء.. كيف سأنقذ حياتي. أتتني قوة غريبة، كسرت الباب بحجر الحمام.‏

الروح غالية يا بني، مهما قلنا إننا لا نريد هذه الحياة تجدنا نعشقها، عندما فتحت كوة بالباب شعرت بأنني انتصرت على الموت، مددت يدي إلى الخارج، وأدرت القفل، ففتح الباب، شكرت ربيّ أن هذا النذل قد ترك المفتاح بالباب، ولم يأخذه معه.. ليلتها نمت منهكاً، لكن استيقظت على حقد، لم أشعر به تجاه أي كائن من قبل.‏

أخفض صوته وتابع بما يشبه الهمس، وكأنه يسرّ لنفسه:‏

(أحقد عليه، نعم أحقد عليه لأنه سلب من حياتي كل طمأنينة، وزرع خوفاً بداخلي، وأصبحت كطفل صغير أبكي قبل النوم، ولا أجرؤ على دخول الحمام.. مع الأيام فقدت ثقتي بالناس كلهم، وكسبت كما ترى كل هذه القذارة. أبشع أمر تصل إليه هو ان تفقد ثقتك بالناس).‏

-لكنك وثقت بي.. أليس كذلك؟‏

عادت نظراته تتفحص وجهي:‏

- أنت طبيب مثل ابني.. وما إن شعرت بيدك تحت وسادتي تؤمّن هاتفي كي لا يُسرق، حتى عاد إلى قلبي خيط رفيع من الطمأنينة، ولقد وجدت بعينيك حزناً، يشبه ما رأيت بعيني ولدي، عندما فقدنا أمه وهو في العشرين من عمره.‏

فوجئت بفراسته. سألته: أين هو الآن؟‏

تابع بنفس الوتيرة من الهدوء والحزن وكأنه لم يسمع سؤالي:‏

-عشنا معاً حزناً جميلاً، وهذا ما جعلنا أقرب إلى بعضنا البعض أكثر من أي أب وابنه. ولما جاءته فرصة التخصص في أوروبا كان بمثل عمرك الآن، أخبرني بأنه سيرفض الفرصة كي لا يتركني وحيداً.. عرفت وقتها أنه ينطق بما يريح ضميره، لا بما يريده.‏

لذلك لم أمنعه بل شجعته على السّفر الذي يصنع به مستقبله، هنا يا ولدي مستقبلكم محفوف بالماضي.‏

- لماذا لم تتزوج؟‏

-أكذب إن قلت لك وفاء للمرحومة لأن الزواج لا علاقة له بالوفاء أو عدمه، بل خوفاً على مشاعر ولدي.‏

شغلني حديثه عن رائحته. علقت كلماته في روحي، نسيت أن أضع الكمامة، ولم أعد أشم شيئاً سوى محبة تشع من عينيه الممتنتين.‏

خرجت إلى ثلّة من المتأففين، الذين لم يتركوا الحديث بعد عن الرجل القذر، ووصفوه بأبشع الصفات، حتى أنهم رأوا من قذارته ما ليس فيه، فقط لحبهم بالمبالغة والثرثرة وليتملّصوا من واجبهم. انتظرت الى أن صمتوا، وأخبرتهم بأن الرجل سيدفع لمن يهتم به ويحقق له رغبته، ولّوحت برزمة النقود أمام وجوههم، ففاحت منها رائحة تشبه الدهن المقلي. شعرت بالغثيان، إلا أنهم اقتربوا مني أكثر وتعلق بصرهم بيدي، ليتحققوا من رزمة النقود.‏

المستخدم الذي خشي من تركِ العجوز لبراغيثه عليه، صاح ملهوفاً: أنا.. أنا أساعده.. مسكين هذا العجوز لا بد أنه وحيد وبحاجتنا.‏

وبسرعة ذهب إلى العجوز يقدم له خدمات لم يطلبها بعد.. فوضع نفسه تحت تصرفه ولم يعد يضغط سبابته وإبهامه على أنفه، وكأن المال يبدد الروائح الكريهة.‏

حتى الممرضات ذهبن تترى لتقمن بواجبهن على أكمل وجه. الممرضة المدهوشة تراقب زميلاتها ودهشت أكثر وأكثر. نظرت إليّ وبصوت منخفض قالت: سأتدبّر له ثياباً للنوم. تمتمت وهي تمشي ببطء.. حسبي الله ونعم الوكيل من نفوس البشر.‏

قلت لها: إنه عصر التحولات السريعة.. لا تندهشي أبداً.‏

عند ما أعود إلى البيت، لن أحدق بوجه أبي بنظراتي اللائمة، لن أعامله بجفاء، لن أحاكمه بمحكمتي الداخلية الممتدة لعشرة أعوام خلت.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية