وأن يستعيد مارأته العينان , إثر تلك الضربة التي تلقيتها على الظهر, فانبثقت الروح فيك! وكانت »القنيطرة«! فرضعنا هواءها, واتخذنا أعواد »الريحان« خضرة لمقابرنا, و»الزعبوب« الأحمر من على سفح تل »أبو الندى« فاكهة لنا, و»العقوب« طعامنا, وأسطح القرميد الحمراء زينتنا, والأحجار السوداء جدراننا, والرمل الأسود سرائرنا.
احتمينا بأشجار »الكينا«, خوفاً من أنفسنا, تسلقنا أشجار »الزنزلخت«, لنعلق بيارقنا وأعلامنا, قطفنا حبات »السم الأصفر« لنخبئها لأعدائنا.
بهذه المقدمة يمكن معرفة علاقة المخرج السينمائي محمد ملص بمسقط رأسه القنيطرة, ونتعرف على شغفه بها وبقائها حية نابضة في ذاكرته إلى هذه اللحظة.
لم يكن محمد ملص يدري كما قال في بداية معنى مسقط الرأس وفيما بعد اكتشف وعرف أن الهواء الأول الذي يتلقفه الإنسان - ماإن يخرج رأسه من بطن أمه, له طعم ومعنى وأثر لايفارقه أبداً طوال عمره وحتى لحظة سقوطك تحت التراب.
يقول محمد ملص في حديثه للثورة عن القنيطرة في أفلامه وكتاباته: الهواء الأول الذي اشتممته هو القنيطرة وهذا الهواء هو الذي منحني وعياً وإحساساً وذاكرة وصحتي حتى اليوم ولذلك فمن غير المستغرب أن يمنح هذا الهواء الذي فقدناه إثر حزيران 1967 أكثر من عشرين سنة من عمري الإبداعي في الكتابة والسينما, وليس لي مهنة وإبداع آخران ليمنحاني المزيد وقد لايكون كثيراً هذا الذي منحته للقنيطرة ولكن كان عميقاً وخاصاً كطعم اللوز..إنه يشبه الوشم.
ما إن عاد ملص إلى وطنه بعد الدراسة في عام 1974 حتى توجه إلى القنيطرة التي خلفها الإسرائيليون مدمرة ليحقق فيلماً بعنوان »قنيطرة 74« حيث إن الشخصية الوحيدة في الفيلم لاتأتي إلى القنيطرة لتتفرج على الدمار بل لتبحث عن ذاكرتها, وكرس للقنيطرة رواية (إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب).
وعن ذلك يقول ملص: قررت أن أعيد بناء مسقط رأسي على الورق أو في السينما, فأنا لاأملك قدرة على بنائها إلا بالإبداع, فالقنيطرة بالنسبة إلي ليست مسقط رأسي فقط, إنها ذاكرة الطفولة, ففيها فقدت والدي وفي ترابها دفنته.
صحيح أنني غادرتها صغيراً لكن روحي لم تغادرها أبداً, وحين عدت إليها معلماً في عام 1966 اعتبرت هذه العودة منحة قدرية ساعدتني على إيقاظ الذاكرة من نومها, وهبت كل حرائق الذاكرة وأعاد الوجدان وهج الطفولة, يومها لم أكن أعرف أن هزيمة ستقع, وإن »إسرائيل« ستحتل الجولان وعلى رأسها القنيطرة, ولم أكن أتخيل أن هؤلاء الجبناء في احتلالهم لأرضنا يهدفون أولاً وبلا آخر إلى هدم ذاكرتنا وكسر وجداننا.
ويصف محمد ملص شعوره عندما رأى الصورة الأولى للدمار في القنيطرة, وكان يومها في موسكو ينهي آخر أيام دراسته السينمائية فيقول: فجعت كثيراً وهرعت إلى سفارتنا هناك لأجمع كل الصحف والصور لأتأملها, ولم أهدأ إلا حين أمسكت القلم وبدأت أعيد بناء المدينة على الورق.
وعندما عاد ملص إلى سورية كان أول شيء فعله أنه أخذ الممثلة نائلة الأطرش إلى القنيطرة ليبحثا بين الركام عن ذاكرتهما وصورهما وليستعيدا عبر البئر وماء القنيطرة طفولتهما.
يقول ملص عن العودة: من خلال روايتي إعلانات عن مدينة أردت أن أبني هذه المدينة دكاناً وراء دكان وشارعاً وراء شارع وحارة وراء أخرى وبيتاً إثر بيت, وفي كل دكان وشارع وحارة ووراء كل بيت كانت هناك شخصيات وكان الناس يعيشون حياتهم التي كانت تعمر القنيطرة آنذاك.
وعن بداية فكرة فيلمه الثاني عن القنيطرة (الذاكرة) يقول ملص: حين صورت فيلم (القنيطرة 74) اكتشفت أن هناك امرأة لم تغادر القنيطرة أبداً أثناء الاحتلال ولذلك عدت إلى القنيطرة من جديد وحاولت أن أرى في ذاكرة تلك المرأة »وداد ناصيف« كم حرباً عشنا, وكم كان العمر مليئاً بالرصاص, ولكنها قررت البقاء حتى ولم يكن لها إلا قططها العشرون تطعمهم وتبحث عن المفقود بينهم.
بعد هذين الفيلمين القصيرين جاء دور الفيلم الروائي الأول ( أحلام المدينة ), هو ليس عن القنيطرة تماماً بل جزء من طفولته عندما عادت الأسرة إلى دمشق, أما العمل الذي كرس له سنوات فهو فيلم »الليل« وهو جزء من روايته إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب.
يقول ملص عن الفيلم: كان فيلم (الليل) محاولة مني للحديث عن القنيطرة كصورة تحتضن كل المواضيع والقضايا, لذلك قدمتها في الفيلم وكأنها مدينة »يونيفرسال« تجمع كل الطوائف والأقوام والأديان, كانت كما أرى أنموذجاً لبلد هو سورية, إحدى أكبر ميزاته أنه بلد يجمع الكل في واحد, إنه ليس بلداً لطائفة أو لقوم إنه بلد الجميع مهما اختلفوا ومهما تخالفوا, وأعتقد أن هذه هي السمة التي يجب أولاً أن نحميها وندافع عنها.
كانت القنيطرة بالنسبة إليّ في هذا الجانب هي الأنموذج حيث الشركس والتركمان والداغستان والأرمن والمسيحي والمسلم يعيشون في وئام, ولكن الوعي الذي كان سائداً آنذاك لم يكن يحمي هؤلاء بل كان الحماس هو الذي يسيرهم, وبالحماسة وحدها لن ننتصر, ولذلك حين أراد »عبد الله« بطل فيلم (الليل) أن يذهب ليدافع مع جيش الإنقاذ كان يعتقد أنه ذاهب ليقطف برتقال حيفا لزوجته, وكان يحس أننا كجيل آخر ينتمي للوعي الذي خلفته لنا الهزيمة أنه يجب أن نبحث عن مصدر الشر الأول في وعينا, وفي بحثه تبين أن موتنا الواقعي هو عار في ذاكرتنا ولابد أن نشتهي موتاً بديلاً له دون أن نغادر مدننا حتى ولو لم يكن لدينا إلا الشتيمة لنشتم بها أعداءنا. هذا الكلام هو جزء من رواية إعلانات عن مدينة والتي أصبحت فيما بعد فيلماً بعنوان »الليل«.
يتابع ملص في وصف مدينته الأثيرة: في الفترة التي كنت فيها مدرساً بالقنيطرة أتيحت لي الفرصة أن أجول بعمق وبروية في هضاب الجولان الجميل من بانياس بالقطاع الشمالي وانتهاء بالحمة بالقطاع الجنوبي مروراً بطبرية, حيث شاهدت إسفلت الطريق الأسود يتشقق من قوة عرق أخضر ينبت تحته ويمزقه, وهنا أدركت الجولان وشعرت عليه بالخوف, لذلك علينا ألا نفاجأ كيف أن الإسرائيليين استطاعوا أن يمسكوا به وأن يحتفظوا به طوال هذا الوقت الطويل.
في فيلمي الأخير »محارم..محارم« اخترعت مشهداً يقول فيه الطفل بطل الفيلم إنه سيطلب من أبيه صورة من الجولان ليلصقها على السوزوكي التي يحلمون بشرائها في المستقبل, وتجيبه الأم: »شو بدك بصورة الجولان بعد هذا العمر« هذا آخر مافعله قبل أيام, وقصدت أن أقول إن الجولان لايفارقني والقنيطرة لن تفارقني حتى لو جاورت والدي في قبره !!