لا شك بأن هذا التأثير شديد وموجود ,لكن إذا اعتبرناه السبب الوحيد لهذا الانحياز,فمعنى ذلك أن السياسة الأميركية بريئة,وأنها ما كان لها أن تكون مشوهة ومنحازة بهذا الشكل لولا تأثير هذا اللوبي الاسرائيلي .
ولكن في حقيقة الأمر هذه البراءة غير موجودة , وهكذا يظهر أمامنا سؤال كبير وهام وهو: لماذا هذا التأييد الأميركي الأعمى والمندفع لاسرائيل والذي يتبدى في أحيان كثيرة متعارضاً مع المصلحة ومع جوهر القيم التي يتغنى بها الأميركيون في مجالات الحرية وحقوق الشعوب ونصرة المظلومين??
يشير الباحث في مجلس الشؤون الخارجية في نيويورك /وولتراسل ميد/في دراسة مطولة نشرت في العدد الأخير من دورية فورين أفيرز الأميركية إلى ما معناه أن السياسة الأميركية المؤيدة لاسرائيل هي انعكاس لما يسميه الصهيونية الأميركية أي التأييد الشعبي والوجداني المتجذر في الشعب الأميركي لفكرة قيام اسرائيل, نافياً ما يتردد حول أن هذه السياسة ناتجة عن تأثير جماعات ضغط يهودية مهما بلغت قوتها, ويتحدث بالتفصيل عن أبعاد وأعماق الصهيونية الأميركية, موضحاً التشابه أو التطابق بين نشوء الولايات المتحدة واسرائيل كدولتي مهاجرين احتلوا أرضاً ليست لهم , وقتلوا وشردوا أهلها الأصليين دون رحمة, وكيف أن هذا الأمر مع أشياء أخرى إلى تكون هذا الوجدان الجمعي الأميركي المؤيد لاسرائيل بشكلٍ سافرٍ.
وهكذا فإن هذه الدراسة تستحق وقفة خاصة معها لما فيها من أفكار هامة توضح أن المشكلة في الانحياز الأميركي الساخر إلى اسرائيل ليست قائمة في صانعي السياسة الخارجية في الإدارات الأميركية المتعاقبة وحسب , بل تكمن في التأييد الشعبي العارم القائم على مجموعة من الأساطير الدينية والتأميلية وأحياناً العنصرية لفكرة قيام دولة يهودية في فلسطين.
والآن ما العناصر التي تشكل الإداراك الأميركي العام لنشوء اسرائيل والتأييد الأميركي الكبير لها شعبياً??
1-الرؤية المسيحانية التي ترى في عودة اليهود إلى فلسطين استكمالاً للنبوءات الدينية المسيحية, وتعجيلاً لما يسمى بالخلاص النهائي من جهة , وتعميقاً للإصلاح الكالفيني ويذكر الباحث« ميد أن مؤيدي فكرة الاعتراف الأميركي السريع بإسرائيل بعد /11/ دقيقة من قيامها, ضموا المرافعات التي قدموها للرئيس الأميركي «هاري ترومان نصوصاً من التوراة تشير إلى أن عودة اليهود إلى ما يسمى أرض الميعاد هي جزء من الاعتقاد الديني.
وإلى جانب تلك المرافعات, قاد مبشرون ورحالة وكتاب سافروا إلى فلسطين وعادوا منها بأساطير كثيرة تكاد لا تحصى, قادوا حملة تعبئة دينية ووجدانية على مدى أكثر من قرن تدفع باتجاه الحتمية الدينية لقيام دولة تلمّ الشتات اليهودي وتصحح التاريخ حيث تعود أرض الحليب والعسل إلى مالكيها الأصليين حسب زعمهم.
2-العنصر الآخر هو الإدعاء بأن قيام اسرائيل يعتبر حلقة ضرورية في التقدم الإنساني, فاليهود حسب هذا الادعاء تعرضوا لاضهاد تاريخي خاصة في أوروبا, ولهذا يجب رفع هذا الظلم عنهم ليكتمل مشروع الحداثة الغربي, وهنا بالطبع لا يناقش الباحث / ميد/ الأفكار العنصرية في مثل هذا النظرة التي ترى أن التقدم الإنساني محصور بالغرب وباليهود, حتى ولو كان على حساب الشعوب الأخرى.
3- العنصر الثالث الذي اخترق المخيلة الأميركية الجمعية, هو كما هي صورة وسيرورة قيام اسرائيل مع صورة وسيرورة قيام الولايات المتحدة الأميركية , فهناك الطهرانية البروتستانتية المسيحانية الهاربة من جحيم الاضطهاد الكاثوليكي في أوروبا, وفي الجانب الاسرائيلي يقابلها هروب يهود العالم من الاضطهاد المزعوم إلى عالمهم الجديد -القدسم , لإنشاء وطن مثالي , وهناك صورة المستوطنين الذين يأتون من أقاصي الدنيا ليعمروا الصحاري القاحلة الجرداء الخالية من السكان , ذلك أن عملية الاستيطان لها ودلالات وإيحاءات إيجابية في المخيلة الأميركية, إنها عملية بثّ الروح والاخضرار في الأراضي اليباب ...!
4- إن تأييد اسرائيل التوراتية وفر ذخيرة هائلة من التبريرات لكل الجرائم الكبرى التي ارتكبت من أميركا عند قيامها عن طريق خلق اقتناع ذاتي بأن أميركا هو في الواقع اسرائيل الجديدة , وأن قيامها كان معجزة ً, لذا كان من المتعذر تفادي الهنود الحمر كما تفعل اسرائيل في أرض فلسطين , عندما تقتل الفلسطينيين, ولهذا فإن رعاية الولايات المتحدة لاسرائيل يغزو شرعيتها ذاتها في وجدان أفرادها , لأنها مضاهية لقيام اسرائيل التوارثية.
5- التأييد الكبير الذي حظيت به فكرة قيام (اسرائيل) من قبل الأميركيين الأفارقة في الربع الأول من القرن العشرين وحتى عام /1967/ , فاليهود المضطهدون بالنسبة إلى الأميركيين السود , يشاركونهم الاضهاد على أيدي مضطهدين مختلفين بمعنى إذا كان اليهود اضطهدوا في ألمانيا , فالسود اضطهدوا على يد الولايات المتحدة , وعلى أرضية هذا الجدل نشأ تحالف قوي بين الطرفين.
6- العنصر السادس هو التضامن مع الدولة اليهودية الصغيرة المهددة من جيرانها, أي تصوير اسرائيل بأنها« داود الصغير المهدد من جحافل تريد القضاء عليه , هذا الزعم وفر الخزان الهائل من التأييد الشعبي الأميركي لاسرائيل , واستثمرته اسرائيل فيما تسميه أنها مفاوضات السلام مع العرب والفلسطينيين , إلى أن أصبح هذا الأمن المزعوم طموحاً لا يمكن تحقيقه.
7- العنصر الأخير الإضافي الذي أسهم في خلق الشعور بتأييد اسرائيل
أميركاً هو أن اسرائيل قوة عسكرية كبيرة تبطش بأعدائها,وتحقق الانتصارات السريعة على غرار ما جرى عام 1967 , إذ رأى الأميركيون فيها صورة لما يجب أن تكون عليه أميركا التي هزمت في فيتنام, ولم تكن اسرائيل التي لا تهزم حسب اعتقادهم.
هذه باختصار العوامل الكامنة وراء الدعم لقيام اسرائيل واستمرار التأييد الأميركي الأعمى لها.