وتجربتي مع الدكتور المسيري استثنائية. كانت محطتها الأولى في دمشق عام 1971, والثانية في أمريكا عام 1978, حين التقيته لأول مرة. وهكذا فعمر معرفتي الشخصية به ثلاثون عاماً. ومع ذلك لم تمتد أحاديثي الثنائية معه, طيلة هذه المدة, وعبر عدد من اللقاءات. إلا ساعات معدودات قد لاتتجاوز العشر.
في دمشق عام 1971 كان يحدثني عنه, حين يتكرم بزيارتي في منزل السيد الوالد رحمه الله, الصديق الأستاذ الدكتور نجم الدين الشرابي, المعروف في المحيط العلمي السوري بأنه أحد أركان هيئة الطاقة الذرية السورية. درس المسيري والشرابي في جامعة أمريكية واحدة هي رتغرز. وكان الشرابي معجباً بالمسيري ومسيرته الفكرية لاسيما في صعيد قضية فلسطين. وكان الصديق الشرابي مطلعاً أيضاً على كتابي عن الاستعمار الاستيطاني الذي نشر صيف عام 1970 من قبل مركز الأبحاث الفلسطيني وبتمويل من جامعة الخرطوم. كان الدكتور الشرابي يرى أن من المناسب قيام علاقة تعاون بيني وبين المسيري, ورشَّح نفسه لكي يكون صلة وصل. إلا أن الاتصال المباشر لم يحصل.
أواخر صيف عام 1978 دعتني » رابطة خريجي الجامعات العرب- الأمريكيين« إلى رئاسة جلسة خلال مؤتمرها السنوي. ما أن أعتليت المنصة حتى أتاني شخص بيده كتاب بالانجليزية قدم نفسه وقدم الكتاب. قال إنه عبد الوهاب المسيري, صديق الشرابي. ومؤلف هذا الكتاب بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور ريتشارد ستيفنز. نظرت في عنوان الكتاب : إسرائيل وجنوب أفريقيا. أحببت العنوان وقبل أن أبدأ بتقليب صفحاته فاجأني الدكتور المسيري, وبتهذيب زائد عن الحد, بتقديم اعتذار عن أمر سريعاً ما اتضح لي. كان في كتابه الذي صدر عام 1977 صفحات من كتابي الذي صدر عام 1970. قال إنه يعتذر إذ لم يستأذنني لأنه أعاد نشر تلك الصفحات. سألته ضاحكاً وقد سُررْتُ بقوله : وهل ذَكرْتَ أنها لي ? قال نعم, وأوقفني عليها . قلت : صنْتَ حقوقي المعنوية بنسبة النص إلي. أما حقوقي المادية فدعك منها. لاحاجة بي إلى مال منك. ثم ثنى على اعتذاره الأول باعتذار ثانٍ مؤداه أنه لم يقم بما رغب به صديقنا الشرابي من المبادرة إلى اتصال شخصي مباشر بي لكي نعمل معاً في مجال تأصيل قضية فلسطين من حيث أنها حالة استعمار استيطاني.
تبادلنا البطاقات. وحسبت أننا سنتابع الاتصال.لم أفعل ولم يفعل.
إلا أنني أخذت أتابعه في أعماله الفكرية كلما أتيحت لذلك فرصة.
ثم في النصف الثاني من الثمانينات صَدرَتْ الموسوعة الفلسطينية في قسمها الثاني الخاص بالدراسات . كانت لي دراسة في ذلك القسم, وكانت للدكتور المسيري دراسة. وللموسوعة فهرس أعلام. كيف لاتكون مُتقنةَ تلك الموسوعة, كيف لا يكون لها فهرس أعلام ورئيس هيئة الإشراف عليها العلامة الدكتور أنيس صايغ نظرتُ في فهرس الأعلام فوجدت اسمي مذكوراً مرتين . تعقبت الذكر. إنه عبد الوهاب المسيري يذكرني مرتين, مقتطفاً من كتاباتي, ومشيداً بها. عادت إلى الذهن تفاصيل لقائي الأول معه عام 1978. قلت لنفسي : هذا شخص محترم. ولعلي قارنتُ موقفه في الاستشهاد بي مع شخصين ( مفكرين كبيرين!) كلفهما معهد البحوث والدراسات العربية بتنفيذ مشروع بحثي عن الاستعمار الاستيطاني فاقتنصاه, ويستحقان مني - حتى الآن - أن ألاحقهما والمعهد بدعوى قضائية. فإن سألني أحد القراء إيضاحاً أوضحت . أما الآن فأكتفي بقول علي بن أبي طالب, أمير المؤمنين :» تلك شقشقة هدرت ثم قرت« .
في عام 1989 خاطبت المسيري كتابه. وربما كانت المرة الأولى التي أخاطبه بها.
أذكر أن وزارة الخارجية السورية أرسلتْ إلى قرارَ اللجنة الوزارية العربية - الإفريقية بالموافقة على اقتراحي إنشاء مؤسسة متخصصة بدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن في العالم.
أُتخذ القرار في آب 1989.وزارة الخارجية السورية سألتني رأيي.
أودعتها رأيي ثم أرسلت صورة منه إلى الدكتور المسيري.لاأدري إن وصله. ما أدريه أنني لم يصلني منه شيء.
ثم أخذت أرى الدكتور المسيري في دمشق . تدعوه وزارة الدفاع تارة. تدعوه وزارة الثقافة تارة. يدعوه الأستاذ عدنان سالم مدير عام دار الفكر, يدعوه تارات.
ذات يوم تصادف وجوده مع ندوة نظمتها في المركز الثقافي العربي (أبو رمانة) بمناسبة ذكرى صدور القرار/3379/ الذي يصف الصهيونية بأنها عنصرية. لعل المسيري اتصل بي هاتفياً قبل الندوة بنصف ساعة. حدثته عن الندوة فإذا بي أراه في قاعة المركز قبل وصولي إليها. دعوته إلى المنصة. تكلم فبالغ في مديحي مبالغة غفرتها لأنه أحاط بدقة بكل ما يعنيه القرار /3379/ .كأن كلمته أَغْنَتْ المستمعين عن كل المتكلمين -ولهم كل التقدير, ولاأدري من منهم سوف يقرأ هذه الأسطر-.
والتقيت به بعد ذلك مرات في مؤتمرات وندوات. ما أن يتكلم ويرى أنني أُنْصِتُ إليه حتى يبادر إلى امتداحي. وحين عاتبته ذات يوم على إفراطه في هذا الأمر فاجأني بقوله : ما أزال أكفر عن الخطيئة الأصلية حين نَشَرْتَ صفحاتٍ من كتابك قبل استئذانك.
مَنْ من مفكرينا كمثل المسيري صحوةَ ضمير?
في دمشق أواخر عام 2007,كما أرجح, كان لقائي الأخير بالدكتور المسيري. اتصل بي فقمت بزيارته في فندقه . حدثته عن رسالتي إلى المستشار الألماني وبها أطالبه بأن يخفف من غلوائه في حرمانه مصر حقها بامتلاك- أو حتى باستعارة(!)- تمثال نفرتيتي. سلمته نص الرسالة. وعد بتسليمها إلى الدكتور زاهي حواس. حدثني كفاية. عن الدعوى التي أقامها على رئيس جمهورية مصر دفاعاً عن اللغة العربية. عن زوجته. عن ابنته رائعة الذكاء التي اختارت لنفسها زوجاً خارج المألوف. عن, ابنه . عن زوجه. كذلك حدثني عن مرضه. أراد مني أن أعتقد بأنه شُفي منه. كنا ثلاثة : هو والفنانة عتاب حريب , وأنا. حين ودعناه وخرجنا معاً, عتاب وأنا, أظهرنا الاطمئنان عليه. في داخلي كان يعتمل قلق: بتفصيلٍ دقيقٍ حدثني عن أهل بيته. لم يفعل ذلك من قبل. هل كان حديثه عنهم » معادلاً موضوعياَ« - كما يقول نقاد الأدب- لضمهم إلى صدره ?
كل نفس ذائقة الموت. ولاحول ولاقوة إلا بالله. وإنا لله وإنا إليه راجعون. وليكن ذكرك مؤبداً من الآن وإلى دهر الداهرين ياصديقي صاحب الضمير الصاحي أبداً.