لكن عندما تصبح الأوطان ومصائر الشعوب، على أكف من مكر وخداع ، أهدافاً واضحة للدهاء الدولي، ومخططات التفتيت والتصديع وإعادة التركيب على شروط من نوع آخر وركائز أخرى، عندما تشرف المصائر والمكتسبات الكبرى على التبعثر والتلاشي ، ويراد لدول الممانعة والمقاومة أن تغيب عن منصات الحضور الركين والفاعل بوضوح في سهره الدائم على الانجازات والمكتسبات النضالية العربية والإسلامية، من أجل أن يتسيد فكر سياسي من نوع آخر ينتمي إلى رؤية أخرى مباينة لخيارات هذه الشعوب، سبق للأمة بكل مندرجاتها وتلاوينها الثقافية والسياسية أن سددت أثمان طرائق إدارتها لأحلامها وتطلعاتها وحقائق الواقع والجغرافيا المتسربة إلى خارج حدودها وكرامتها، هذه الرؤية باتت على غاية من الوضوح وبقرائن الأحداث الإقليمية في الماضي القريب، وبذا يصبح الحديث المقنّع عن الديمقراطية في أرض الثوابت النضالية خطيئة كبرى ممن ليسوا ديمقراطيين حتماً وقطعاً في دوائر حكوماتهم السياسية وأوطانهم الخالية من دسم العروبة بالمعنى الحقيقي خارج الشعارات واللافتات التي أضاعت فلسطين حتى هذه اللحظة.
كثيرون هذه الأيام، نقلوا أقلامهم من كتف إلى كتف، وسال حبرهم خارج عقائدهم السياسية ، في اتجاهات أخرى، وباتت صرخاتهم « النضالية» الحبرية والفضائية تطعن في ظهر سورية الظهير العربي الذي لطالما حمى الثوابت والمنطلقات وثوابت الأمة بصدره الأعزل، المدرع باقتدار وممارسة حكيمة لإدارة ملف الصراع العربي الإسرائيلي منذالرئيس حافظ الأسد وإلى هذه اللحظة المصيرية التي آلت إليها اشتهاءات لسقوط النظام السياسي في سورية كمدخل إلى وصول الأوهام الإقليمية والدولية إلى ما لم تستطع تحصيله بكل أوجه ممارسة المكائد والبكاء على الديمقراطية وحقوق الإنسان التي أراقوا كل دمائها في العراق وفلسطين أرضاً وإنساناً ومقدسات، وبأساطيلها وقواعدها وحراكها العقيم والمستدام، كل ذلك باسم الحرية وبكاء الشعوب،بكاء تماسيح السياسة والثعالب الدولية.
من يصفق لأحداث سورية اليوم، يصفق بأياد ديمقراطية شكلاً، وعقول استبدادية ضمناً وحاقدة أحياناً وبمعزل عن تداخل أشياء كثيرة تارة ثالثة، بالتأكيد، درعا لا تسيل دموع بعضهم كما يزعمون، ففلسطين لو كانوا كذلك، إلى البكاء أدعى ، والعراق عندما فتكت به طائرات الاحتلال الأميركي ومشاته ومدرعاته إلى الأنين أحجى، غزة حاصرها فرعون مصر الحديث ومنع عن أهلها أدنى مقومات الإرادة في حياة غير ملكية بها اقتنعوا ورضوا كانت تستحق البكاء أيضاً،محمد الدرة الذي استشهد ولم تستطع يدا أبيه المرتجفتين من حمايته من رصاص «إسرائيل» الوحشي، وعلى مرأى ومسمع من كل منظومات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعيون السائلة في أحضان أميركا وتل أبيب وعلى أقمشة الحرية هذه الأيام، سائر أوطاننا مسلوبة القرار والسيادة ووجهات الحراك والمصائر،أوطان تجثم على أرضها جيوش لاتنتمي إلى نسيجها ولا إلى سيادتها ووزارات دفاعها ودروعها، من تؤيد قطاع الطرق الدولية على قرارها وإرادات شعوبها وبشرعة الديمقراطية والحريات الوطنية السياسية والمصالح الأميركية أيضاً.
ما ذنب سورية: أنها لا تريد الديمقراطية وحقوق الإنسان؟؟ لا.
خطيئة سورية أنها لاتنحني لأميركا حيث يركع الكثيرون، وأنه لايذهب رئيسها إلى الولايات المتحدة كما يحج الكثيرون،لاتنسى أميركا للرئيس الراحل حافظ الأسد فرضه على رؤسائها ملاقاته في وسط الطريق بين دمشق وواشنطن ،أو إلى جانب كرسيه في دمشق كلما أرادوا بحث جدول الأعمال السياسي العربي عامة والدمشقي خاصة، وعندما كانوا يغادرون إلى البيت الأبيض كانت سورية تبقى في دمشق بكل ثوابتها وبكل خطوطها العربية وياسمينها الإقليمي ولاءاتها الثابتة إلى يوم الديمقراطيين هذا.
ذنب سورية أنها لم تقدم مفاتيح قرارها الاستراتيجي على طبق من مركبات النقص لصانعي القرار في واشنطن وغيرها، ذنبها أنها آوت حركات النضال الفلسطيني في عرينها والتي حرمتها الأنظمة العربية حتى فرصة التواجد على أرضها لئلاً تذكر فلسطين، فتنزعج «إسرائيل» في فلسطين وينزعج الكثيرون تبعاً، مفاتيح دمشق على خصر دمشق، لاعلى خصر البنتاغون أليست هذه أخطاء سورية ؟ وبحسب دفترشروط الديمقراطية الأميركية.
سورية التي وقفت منذ الطلقات الأولى مع المقاومة في لبنان وحمت إرادتها وانجازاتها وقدمت لها أمنها وأمانها السياسي وفتحت لها أرضها وقلبها وعقلها رئيساً ودولة وشعباً ومؤسسات،وبالأخص في حروبها المصيرية الثلاث، قبل التحرير وبعده يذكر التاريخ السياسي للرئيس حافظ الأسد، وإن تناسى الكثيرون،أنه لم يستقبل وارن كريستوفر وزير خارجية أميركا الخارجة على القانون الدولي عندما أراد لقاءه لضرورات إسرائيلية في سورية ،حينها كانت المقاومة تسطر أروع الملاحم والبطولات في الجنوب الأبي وبالنيابة عن كل الديمقراطيين والمستبدين العرب وحاملي لواء وثارات لبنان وفلسطين على كل الطرق التي لاتوصل إليهما طبعاً ولا إليهم حتماً.
مايحدث اليوم دون شك مرتبط في كثير من روافعه بالخارج السياسي لاأتحدث عن متظاهرين هنا أو غاضبين هناك ممن يحملون مطالب مشروعة اتسع لها وللاعتراف بأحقيتها صدر النظام وعلى لسان رئيسه ووعد بالعمل لإحقاقها وصولاً إلى استعداده لتغيير الدستور بكل مواده إذا كان صالح الاجتماع السوري يتطلب ذلك، المظاهرات السلمية تحصل في كل مكان من العالم أياً يكن سقف مطالبها ونتيجة التظاهرات الأخيرة تدلل بما لاشك فيه على الأكثرية التي تؤيد النظام في دمشق وسائر المدن السورية بالموازين الديمقراطية وموازين الرأي العام الوطني أيضاً، وهذا مادفع بمراقبي السفارات وكثير من المراقبين الدوليين إلى طلب إعادة الحسابات مع سورية والعمل على إعادة وصل ماانقطع وما كاد أن يقطع معها.
المصرون على خلاف ذلك، يكمن في داخل عقلهم السياسي إسقاط سورية وتفتيت تموضعها في الوسط الاستراتيجي لدولة تصل محور المقاومة الإقليمي ببعضه وتشكل أحد أهم مقوماته، وتدمير حلقة قوية من منظومة النضال والاقتدار العربي والإسلامي كمدخل لتطويعها وإدخالها إلى بيت الطاعة الممسوك أميركياً، وهذا مالاأعتقد أن بإمكان أحد قبوله، ولاالبقاء مكتوف الضمائر أمامه هو إسقاط للهيكل المقاوم على رؤوس كل حاملي لواء التحرير والتحرر أيضاً وعلى مجمل الوطن العربي استراتيجياً ومصيرياً .
يبكي كثيرون اليوم على الجولان وأنه يمثل جرحاً عميقاً في الكرامة الوطنية وهو جرحنا طبعاً إلى جانب كل جراحنا العربية - ولكنه بات «حائط مبكى عربياً» بامتياز هذه الأيام - وأن سورية لم تستطع تحريره إلى الآن ، ومعنى ذلك وبخبث واضح هو أن سورية كانت تتذرع به - شكلاً - لأخذ شرعية وامتيازات الدولة المقاومة ،!! لاتحتاج سورية شهادة حسن سلوك نضالي من أي نظام عربي، وهل بقاء الأرض محتلة دليل على ما يزعمون ؟؟
كثير من الأوطان احتلت أرضها ، وكثير منها طال أمد احتلالها ، منها ماتحرر ومنها ، ماينتظر ، ولكن يسجل لسورية أنها لن تمشي على طريق كامب ديفيد ولا وادي عربة وجولانها على طريق التحرير حتما هو قدر الأحرار والشرفاء في استعادة مسلوباتهم الدولية ، بلا قيد ولاشرط ولا منة ذلكم حتمية تاريخية ونضالية أيضاً .
ومع ذلك ألا يسأل النظام السياسي العربي بكل مكوناته وجيوشه وعروشه ومقدراته نفس السؤال عن فلسطين، ألا يستطيع تجمع النظام العربي إعادة فلسطين إلى أهلها بدلاً من العمل ليل نهار على حمل مشاعل الأوهام الأميركية على الطريق إلى دمشق وأهلها.
كفى بؤساً ..
كاتب لبناني