شاهدنا بأعيننا كيف ترجمت التحضيرات للحرب ذاتها على الأرض منذ أن ُطلب منا مغادرة المدارس قبل انتهاء الدوام، وكيف تحولت المدارس الكبيرة في وقت صغير إلى مستشفيات مجهزة بكل مستلزماتها. وكيف تكدست أكياس الطحين أمام المخابز وكأنها تقول للناس أن لا خوف على خبزكم.
في تلك الأيام، كنا مجموعة طلاب شبان نتواجد في مقر مؤقت، هو أساساً مدرسة ابتدائية، مع عدد ممن هم أكبر سناً منا، وعلى رأس المجموعة الأديب والناقد صميم الشريف (رحمه الله). كان موضوع الحرب - بطبيعة الحال - الموضوع الطاغي على أحاديثنا، أو الوحيد فيها، وقد أغناها عمل الأستاذ الشريف والمونتير العريق الأستاذ زياد معدني في التلفزيون، اللذان اصطحباني مرة إلى مسرح القباني (حيث انتقل أستوديو التلفزيون أثناء الحرب) لأشاهد لقاءً تلفزيونياً مع سلطان باشا الأطرش (قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي) سٌجّل في منزله بالقريا، ولا أستطيع وصف مشاعري في تلك اللحظة التي تداخلت فيها أفكار كثيرة.
كان الصديق زياد معدني أول من يتواجد في المقر، لأنه غالباً ما يسهر على عمله في التلفزيون حتى الفجر، فيستقرب، غالباً، الحضور إليه بدل الذهاب إلى بيته في ذلك الوقت المتأخر. وقد أتاح له ذلك أن يقرأ الصحيفتين اليوميتين (البعث والثورة) فور وصولهما إلى المدرسة قبل الجميع، وأن ينصحنا بقراءة تحقيق أو قصيدة، كما حصل حين نشر الكبير سليمان العيسى (رحمه الله) قصيدته الرائعة (طائرة الاستطلاع). لكننا في تلك الأيام كنا ننتظر بشوق صورة بذاتها، ففي اليوم الأول للحرب أعلن الناطق العسكري السوري أن مجموعة من الوحدات الخاصة قد اقتحمت المرصد الذي أقامه العدو على أعلى قمة في جبل الشيخ. وبقدر ما كان الفعل البطولي يثير خيالاتنا، فإن تلك الصور المتخيلة بقيت بحاجة لصورة حقيقية تؤكدها أو تصححها، وخاصة أن العدو ظل ينكر اقتحام قواتنا للمرصد. وبعد أيام طويلة استقبلنا الصديق زياد معدني بابتسامة صباحية فرحة، وهو يحمل بيده الصحيفة اليومية وقد تصدرت صفحتها الأولى صور رائعة - شكلاً وموضوعاً- لأبطال الجيش العربي السوري وهم يقومون بتطهير المرصد من الجنود الأعداء. وسرعان ما انتشرت هذه الصور على نطاق واسع، داخل سورية وخارجها، حتى أصبحت رمز حرب تشرين.
خلال سنوات عملي الصحفي الطويلة التقيت بعدد من الضباط والجنود الأبطال الذين شاركوا بهذه العملية البطولية الاستثنائية، ورووا لي الكثير من التفاصيل الإنسانية التي تستحق أن تخلَد. ولكني احتجت وقتاً طويلاً لأتعرف على البطل الذي التقط تلك الصور المذهلة، وكان ذلك بمحض المصادفة. ففي عام 2010 كنا في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون نستعد للاحتفال بالعيد الذهبي للتلفزيون، وكان برنامج الاحتفال يتضمن إصدار ألبوم تذكاري مصور عن البدايات، وتنظيم معرضٍ موازٍ. ولم نجد أرشيفاً للصور الفوتوغرافية، فقد ألغيت شعبة التصوير الفوتوغرافي منذ سنوات وتبعثر أرشيفها. اقترح عليّ الأستاذ معن حيدر المدير العام للهيئة الإذاعة والتلفزيون - حينذاك- أن أتصل بالمصور بشير شحرور، لاحتمال أن تكون لديه نسخ من صور البدايات مع أنه لم يكن موجوداً في التلفزيون في سنواته الأولى. ولم يخيب المصور القدير آمالنا الضعيفة، إذ كان يحتفظ بـ(نيجاتيف) صور زملائه التي التقطوها في بدايات العمل التلفزيوني، وكان قد أنقذها، بمبادرة شخصية، بعد أن ألقيت في المهملات. وعلى هذا صدر الألبوم التذكاري المصور بشكل أنيق، ونُظم معرض وثائقي مهم تزين صوره اليوم أروقة وممرات مبنى الهيئة العامة للإذاعة للتلفزيون.
أثناء تحضير الكتاب فوجئت بوجود صور اقتحام المرصد في أرشيف بشير شحرور شريكي في إعداد الألبوم. وعرفت للمرة الأولى أن هو من التقطها، فلم أفرط بفرصة استعادة تلك الذكريات المجيدة التي عاش معها قبل أيام قليلة جمهور الندوة الخاصة التي نظمتها الزميلة العزيزة إلهام سلطان، واستضافها المركز الثقافي العربي في كفرسوسة.
لست بصدد استعادة تلك الذكريات، وإن كنت أرغب بذلك، لكني وجدتها فرصة لتوجيه التحية لكل من ساهم في تنظم الندوة واستضافها. وقبل الجميع وددت توجيه الشكر الحار للمصور البارع بشير شحرور، الذي شارك الجنود الشجعان بطولتهم وإقدامهم وبسالتهم. والذي قام منفرداً بعمل مؤسسة. وحفظ لنا أجمل وأبهى وأقدس ذكرياتنا.