وهكذا كان على الأمة العربية أن تراجع حساباتها بدقة وموضوعية، وتضع أولوياتها في مواجهة العدو الإسرائيلي، وتحرير الأرض التي احتلها بالعدوان والقوة، في سورية ومصر و فلسطين، وإن كان هذا ليس بالأمرالسهل في تلك الظروف التي أعقبت نكسة حزيران.
وفي وسط تلك الظروف القاسية، كان ثمة أمل ينبعث من عمق المأساة العربية، ليؤكد أن الأمة العربية مرت عبر تاريخها الطويل، بانتكاسات كثيرة واستطاعت أن تتجاوزها بفضل إرادة أبنائها وقدرتهم على التضحية والفداء دفاعاً عن كرامة الوطن وقدسية الأرض.
وهذا ماكان فعلاً للتغلب على مظاهر اليأس والقنوط التي عصفت بالشعب العربي، فلم يمضِ أكثر من ستة أعوام على نكسة حزيران، حتى اتسع الأمل المشرق، وانبلج صبح عربي يضيء عتمة الظلمة القاسية، في السادس من تشرين الأول عام 1973، حمل مشعله المخلصون من أبناء العروبة وفي طليعتهم القائد الخالد حافظ الأسد، كان له الدور البارز في تهيئة الأجواء العربية، والإعداد المتقن لحرب تشرين وحسن إدارتها، وهذ ماعرفه كل مواطن عربي، عاش تلك الفترة بأحداثها ونتائجها العربية والإقليمية والدولية.
وهكذا صحونا من الكابوس المرعب، إلى الحلم الحقيقة، صحونا على حلم جميل ونحن في غمرة العزة والنصر والفخار، مع حرب تشرين التحريرية، التي أخذت زمام المبادرة من العدو الإسرائيلي، وحولت النكسة إلى صحوة، والهزيمة إلى انتصار، بفضل جنودنا البواسل الذين أظهروا أروع أشكال البطولة والفداء، والوفاء للوطن وقائد الوطن، جنودنا الذين اعترف ببطولاتهم العالم أجمع، حتى بات جنود العدو يخشون التوجه إلى الجبهة السورية، وملاقاة أي جندي من قواتنا الباسلة، وكان مع قواتنا، كل أبناء الوطن الذين وقفوا خلفهم صفاً واحداً- يدفعونهم إلى الصمود والصلابة في مواجهة العدو الإسرائيلي المحتل، وتحطيم جبروته، وإذلال هيبته وعنفوانه.
مئات من دبابات العدو تحترق بنيران جنودنا الأبطال عشرات من طائرات العدو تتهاوى وتسقط كالذباب، بصواريخ نسورنا البواسل، في البر والجو، وطياروها يهبطون أسرى بيد أبناء شعبنا، وقائد يعلن بفخر واعتزاز، عن بوادر النصر، وتدمير المرصد الكبير الذي أقامه العدو فوق قمة جبل الشيخ الأشم، كما يعلن عن تحطيم خطوط دفاعات العدو الأرضية وتحرير القنيطرة.
وفي المقابل كانت حناجر الجماهير تصدح بالزغاريد والأهازيج، وأغنيات الفرح بالنصر والتحرير «سورية ياحبيبتي،أعدت لي كرامتي» لقد تحطمت أسطورة العدو الذي لايقهر وظهرت قوة الحق وحق القوة وإرادة الصمود والتحرير فما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة.
لقد كانت حرب تشرين التحريرية، ضرورة وطنية وقومية، وجاءت رداً حتمياً وحاسماً على ماخلفته نكسة حزيران 1967، من جرح بليغ في عمق الوجدان العربي، كما كانت جواباً بليغاً وقاطعاً على مزاعم حكام الكيان الصهيوني وحلفائه، التي روجت لأسطورة الجيش الذي لايقهر، مقابل عجزالعرب عن مواجهة (إسرائيل) وتحقيق أي نصر عسكري عليها، لأنها الأقوى وصاحبة الحق في امتلاك الأرض بحسب الأوهام التوراتية، ولكن أوهامها تبخرت وآمالها خابت، ومزاعمها تهاوت، حيث أثبت العرب قوتهم في تضامنهم، وقدرتهم على المواجهة بإرادة صلبة، لأنهم أصحاب الحق الحقيقيين، وجسدوا في حرب تشرين انعطافاً تاريخياً في الصراع مع العدو الإسرائيلي، الذي استنتج هذه الحقيقة قبل غيره.
وإذا كانت حرب تشرين التحريرية، قد أعادت الثقة والأمل للذات العربية، فإنها في المقابل أحدثت تصدعاً عميقاً في نفوس الإسرائيليين عامة، والقوات العسكرية خاصة، بسبب تلك الصدمة العنيفة التي فوجئوا بها في هذه الحرب التي أحدثت تحولاً جذرياً في موازين الصراع العربي- الإسرائيلي، وفضح أوهام (إسرائيل) وإدعاءاتها المزيفة في السعي إلى السلام، وهذا مادعا أستاذ الفلسفة اليهودية (أليعازر شفايد) إلى القول بعد أكثر من ثلاثين عاماً على حرب تشرين التحريرية :(إن حرب تشرين عام 1973، ونتائجها، جعلت الإسرائيليين يسمعون للمرة الأولى، الدعوة إلى إعادة تقييم مدى صحة المشروع الصهيوني، وكان العامل المحرك لذلك هو شعور الكثير من الشبان الإسرائيليين بأن تحقيق الصهيونية يتطلب ثمناً باهظا، ولاسيما من الشبان وفي هذا السياق ينبغي ألا يغيب عن الذهن أثر الصدمة القاسية التي أحدثتها حرب عام 1973، في نفوس الإسرائيليين عامة ولدى الشباب خاصة».
وهذا كله يؤكد أن روح تشرين الصمود والتحرير، يجب أن تبقى حية خالدة في ضمير الشعب العربي كله، وعبر أجياله الحاضرة والمستقبلية، وتبعث لديه تاريخ البطولات والأمجاد، تزكي في النفوس جذوة النضال والفداء، من أجل تحرير الأرض واسترجاع الحقوق المسلوبة كاملة، من دون مساومة أو تنازل، أو تفريط بحبة تراب من أرض الوطن، مهما طال الزمن أو قصر!.