يومها كانت أمي وجدتي تغيبان لساعات عن البيت، ولأيام كثيرة، فمصياف كغيرها من بلدات سورية، استقبلت العديد من أبنائها شهداء، وكان من الطبيعي أن يشارك الجميع في استقبال الشهداء وتشييعهم، والوقوف مع أهلهم.
ولم نكبر كثيرا عندما بدأنا نرى جيراننا يستقبلون أقرباءهم وأصدقاءهم ومعارفهم قادمين من لبنان، هربا من حرب يقتل اللبنانيون فيها بعضهم بعضا، تسابقت النسوة لتقديم الاحتياجات اليومية والمساعدات للقادمين، ريثما تعرف أخبارنهاية هذه الحرب، وعندما استمرت وطال بقاء هؤلاء الإخوة اللبنانيين، بدأ الجميع يساعدهم في تأمين المسكن الذي ربما يكون دائما، وايجاد العمل المناسب، فلم يكن احد يعرف متى ينتهي كابوس تلك الحرب اللعينة،لأن وقوفنا الى جانب أهلنا في لبنان لم يقتصر على استقبالهم، بل تدخل الجيش السوري ليعمل على نزع فتيل تلك الحرب، ووقف الذبح بين أبناء الوطن الواحد، ولم تنته تلك الحرب حتى عاد الكثير من أبنائنا شهداء.
وعندما بدأنا نقرأ في المدرسة و ندرس التاريخ والتربية الوطنية، لم تحتج معلماتنا الى وقت كبير ليفهمننا معاني كثيرة ، أو مفردات تبدو غريبة على الأطفال ككلمة عدو، أو استعمار، أو ندرك معنى التعاون والتعاضد بين أبناء الوطن في الأزمات والمحن، لأننا عشناها ورأينا أهلنا يتدبرون ويعدون الوقت والمؤن والمؤازرة لمواجهة ظروف الحرب، وفرحنا معهم يوم تحقق النصر.
ولأننا من بلاد هي قلب العالم ، وفي بؤرة الأطماع الاستعمارية، بقيت حربنا قائمة، ربما ليست دائما حربا مباشرة، فقد كانت تتحول الى مواجهة حصار اقتصادي، بسبب وقوفنا وتمسكنا بحقنا في الجولان ومع أشقائنا في فلسطين ولبنان، وفي حصارنا الأخير وقفنا أمام وتحدينا في مجتمع لايهمه الا وحدته الوطنية والوقوف في وجه الضغوط الخارجية سدا منيعا على الاختراق.
فبعد مناصرتنا للمقاومة الوطنية اللبنانية في حرب تموز، كان يتربص بنا عدوان غاشم جاء على شكل حصار، لأنه في تلك الحرب فتحت سورية بيوتها ومدارسها ومشافيها لأهلنا اللبنانيين، لم تكد تصل أول عائلة من الفارين من الغارات الاسرائيلية، حتى اصطفت جموع المتطوعين لاستقبالهم ومساعدتهم، اليافعون، والشباب قبل الكبار، والنساء الى جانب الرجال، وفي مدينتي الصغيرة مصياف كان الأهالي يتناوبون على زيارة معسكر طلائع البعث حيث يقيم اخوتنا اللبنانيون، ويتسابقون لتقديم أي عون أو مساعدة أو احتياج ما.
اننا صنعنا انتصارنا في حرب تشرين، وبقينا مجتمعا متماسكا، استمررنا في بناء دولتنا، ورغم كل ما تعرضنا ونتعرض له من ضغوط ومحاولات، لخلخلة تماسكنا الداخلي، بقينا على التمسك بالبناء والتنمية، وأسرتنا السورية في زمن الحرب مقاومة، وبين الحروب بناء وتنمية يؤسسان للسلام، هكذا كانت تنشئتنا، وهذا ما رضعناه مع حليب الأمهات، وفي ذكرى الحرب نوزع الورود على أضرحة شهدائنا، نفرح بالانتصار، ونصمم على البناء.