هذه الحكاية التي حدثني عنها والدي المتقاعد من السلك العسكري الذي شهد بحكم سنه كسر أسطورة الذراع الطويلة والتفوق العسكري لعدو متغطرس من بعد نكسة حزيران وعايش أحداث حرب تموز، وحصد كما حصد كل شرفاء هذا الوطن انتصار أهلنا في غزة بصدورهم العارية على الميركافا والعقبان الشاردة..
هذه الحكاية وضعتني مباشرة أمام حقيقة وجوهر المجتمع السوري الذي نجح أمام أكثر من محك في تحويل المحنة الى امتحان وحقق بلحمته مع المقاومة في أي أرض كانت كرامة الانسان العربي..
فهذا العجوز الذي تخلى عن أحد عكازيه تبرعاً لشقيقه في لبنان الصمود، ربما تراه عاد إن بقي حيا-وتبرع بعكازه الآخر لشقيقه في غزة..
والأمر تعدى كونه بادرة فردية بشهادة القائم على جمع التبرعات في أمانات الهلال السوري، الذي طفق يحدثني مرة عن عامل التنظيفات الذي أتاه في حرب غزة حاملا نصف «سفط» بيض بيده، وخاطبه قائلا: لقد قسمت زادي بين أولادي هنا، وأولادي هناك..
هذه الروح الوطنية والوعي بالفطرة، لم تتولد في نواة المجتمع السوري بين يوم وليلة بل تجد جذوتها تتأجج في سعير حرب تشرين، إذ نهض المجتمع السوري بكافة شرائحه نساء وعمالا وأطفالا ومسنين لمؤازرة الجبهة الخارجية بجبهة داخلية نظموا أنفسهم فيها طوعاً فبدت للعدو أشد منعة من الجبهة الخارجية، وعجز عن خرقها بالترويع والتهويل لأن المتطوعين فيها كانوا كالبنيان المرصوص، ولم يخلو من تنسيق عفوي وتنظيم تلقائي فرضه على المجتمع السوري هول الحدث..
أذكر مما أذكر أني عدت من مدرستي الابتدائية كما عاد أقراني الى منازلهم دون أن ندرك السبب، وألفيت والدي مستنفرا حتى بلا تلويحة وداع..
وعلمت عندما قادنا عناصر الدفاع المدني الى الملاجىء تحت الأرض أننا في حالة حرب..
خلت كما حسب أطفال الجوار من حولي أن الأمر أشبه بالألعاب النارية الخلبية ولكننا كنا نرى نتائجها على الأرض واقعية، فها هو الأسير الاسرائيلي -مجنزرا-على كرسي القيادة، في طائرة أسقطها نسورنا في دفاعنا الجوي..
ولشد ما رأيت عيني والدي «الذي عاد جريحا الى البيت عندما قصف العدو-الآمرية- التي كان يخدم فيها» تترقرق بالدموع على رفاق قضوا نحبهم وآخرين ينتظرون وما بدلوا تبديلا..
كل شيء من حولنا كان يبدو عاديا هادئا، الخبز والمؤن متوفرة في كل بيت بفضل المتطوعين من الأحزاب المختلفة والمعامل تدور بأيدي النساء.. حتى فطومة مسنة قريتنا، تبرعت حسب ما حدثنا أهالي قريتنا ببقرتها التي لم تكن تملك غيرها، والتي تحولت مع الزمن الى قرينة لها، تذهب معها أينما ذهبت، وتجلس حيث جلست واعتقدت باكية وهي تودعها أنها لا بد ذاهبة الى الجبهة، لتروي من ضروعها ظمأ مقاتل ساهر لا تغفل عينه أو تنام..
هي حكايات تبقى في الذاكرة كالمنمنمات ولكنها تختزل في القلب رواية لا تنتهي عن عشق الشعب السوري للحرية وتيمه بالكرامة..
هذه الكرامة التي جعلت كل فرد من لحمة هذا المجتمع يقسم رغيف يومه بينه وبين أشقائه في الداخل والخارج ليحقق معادلة -الكرامة- فالجوع مع الكرامة خير من شبع ذليل.