ولقد تحولت صالة الشعب للفنون الجميلة إلى ورشة عمل متواصل تقدم كل الخدمات التي تبرز دور الفن في المعركة، فالذي لم يستطع تحقيق رغبته في الذهاب إلى خط النار من الفنانين ساهم في إنجاز اللوحات الملتزمة وإعداد الملصقات السياسية لمواجهة المرحلة القادمة في تحرير الأرض واستعادة الحقوق السليبة.
وإذا كان فنانونا قد سارعوا للتعبير عن تحولات المرحلة بطريقة إعلانية وتسجيلية فإن ذلك لم يمنعهم في مرحلة لاحقة من التعبير عن معاني تشرين بلغة تشكيلية خالصة وصلت حدود التعبيرية والتجريدية أحياناً.
هكذا نجد أن اللغة التشكيلية الخالصة التي ظهرت في مرآة حرب تشرين قد تأخرت قليلاً في الظهور، بسبب عمقها وتشابكها وبعدها عن إطار الذوق الفني العام...
وكان من الطبيعي أن لاتأتي اللغة النقدية والتحليلية الموازية لتلك الأعمال الحديثة إلا متأخرة لبعدها أيضاً عن المخاطبة الجماهيرية.
وثمة مسافة شاسعة جداً بين رؤية اللون والتكوين والخط والتقنية والأسلوب من وجهة نظر تشكيلية بحتة وبين رؤية الرمز أو الدلالة التي تبرزها اللوحة المرتبطة بأيام وفصول الحرب.
مجمل الكتابات التي تناولت تأثيرات حرب تشرين التحريرية على الفن السوري بحثت عن الدم والحرائق وبؤر النار وحطام الطائرات والمدرعات والأبنية المدمرة، بالإضافة إلى معان من نوع آخر لها علاقة بالأمل، وبفرحة النصر ودحر العدوان، وقدرة الإنسان العربي على إثبات حقه في الوجود والرغبة في الاستشهاد وغيرها من العبارات التي تتجاهل الجانب الفني والإبداعي في أعمال هذا الفنان أو ذاك.
وهذا يعني أن هناك تجارب فنية ضعيفة قد احتمت وراء الموضوع السياسي، بحجة الالتزام والمساهمة في معركة المصير وعلى العكس من ذلك هناك العديد من الفنانين السوريين المبدعين عبروا عن أحداث الحرب بطريقة أكثر عمقاً وتوجهاً نحو الرمز واللغة التشكيلية العفوية وهذا مانجده في بعض لوحات فاتح المدرس ومحمود حماد وممدوح قشلان ونعيم اسماعيل وبرهان كركوتلي ولؤي كيالي وخزيمة علواني وجريس سعد وأحمد دراق السباعي، وغازي الخالدي وعلي السرميني وغياث الأخرس وعبد المنان شما ونذير نبعة وممتاز البحرة وخالد المز وغسان السباعي ونشأت الزعبي وليلى نصير وغيرهم.
والذين يعرفون جوانب المسار التشكيلي والتقني لهؤلاء الفنانين يدركون أنهم لم يقدموا أية تنازلات على الصعيد الفني، في تناولهم لموضوع الحرب، حيث تفاعلوا مع الأحداث بعفوية لونية مترسخة في الإحساس، لذلك ظهرت رموز المعركة في فسحات اللون القادم من تأملات معطيات الفنون الحديثة، لأن الفنان هنا كان يعيشها كحالة نابعة من تأثيرات تجاربه الفنية والثقافية.
فالتشكيل السوري الذي ساهم في التعبير عن أحلام تشرين وطمح لمسايرة وهجها كان يهدف إلى إشاعة الأمل، وتذليل الصعاب، ولقد جنح في اتجاهه التعبيري والرمزي... نحو الاختزال والتبسيط والتحوير بهدف الوصول إلى الإيحاء المطلوب الذي تؤديه لمسات اللون الكثيف ودرجاته المتفاوتة على سطح اللوحة، الشيء الذي يؤكد الهاجس الفني لدى الفنان في الوصول إلى تشكيل البعد والعمق الملتزم بقضايا شعب ونضال أمة.