حرب تشرين التحريرية ليست حدثاً عابراً في حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، بل هي نقطة تحول جوهرية ومنعطف أساس في مسيرة الشرق الأوسط كله، وكما كان حزيران انعطافة يأس وقنوط، فتشرين اقتلع اليأس والذل والهوان وحمل معه آفاقاً جديدة واسعة ورحبة بدلت في مسارات الحياة، وبعثت الإنسان العربي من جديد.
تشرين فاتحة نصر امتد ولايزال من نصر لبنان في تموز إلى نصر غزة إلى صمود سورية في وجه أعتى المؤامرات التي حبكت ضدها وتكسرت على صخرة صمود أبنائها.
تشرين التحرير أجبر العالم كله على التحول وإن كنا معنيين أكثر من غيرنا بقراءة هذا التحول وحصاد النصر لكننا في الواقع كان علينا أن نحسن استثماره أكثر فأكثر، وكان على العرب أن يتنبهوا أن هذا التحول، هذه اليقظة، هذه الوثبة لن تمر دون مؤامرات. وعلى كل حال لسنا بصدد مراجعة تاريخية للوقائع والأحداث والمعطيات ولما آلت إليه الأمور ولكننا أمام حدث يجب أن يبقى متقداً، وضاء، مضيئاً، يجب أن يبقى المحيط الذي يسبح فيه المبدعون وينهلون من أعماقه.
صحيح أن المبدعين غمسوا وعطروا إبداعهم بلون تشرين وعطره ولكن المزيد المزيد يكتب، فلا الشعر أوفاه حقه ولاالرواية ولاالفن التشكيلي ولاالسينما أو الدراما ومع أن الحدث قد وقع قبل ستة وثلاثين عاماً وهذا يعني أن الرؤية قد نضجت لمن يريد أن يعطر إبداعه ثانية وثالثة بمداد النصر وعنفوانه.
قبل ستة وثلاثين عاماً هبت القُطُرُ كلها إلى الجبهة على حد تعبير نزار قباني، وبدت دمشق أكثر بهاء وإشراقاً، خريفها أزهر وأثمر وأعطى، وماقصيدة شاعرنا ( قباني) ترصع بالذهب على سيف دمشق إلا شهادة على الولادة الجديدة .
يقول نزار:
أتراها تحبني ميسون..أم توهمت والنساء ظنون
هاهي الشام بعد فرقة دهر - أنهر سبعة وحور عين
النوافير في البيوت كلام - والعناقيد سكّر مطحون
آه ياشام كيف أشرح مابي وأنا فيك دائماً مسكون
يادمشق التي تقمصت فيها - هل أنا السرو أم أنا الشربين
جاء تشرين ياحبيبة عمري - أحسن الوقت للهوى تشرين
ولنا موعد على جبل الشيخ - كم الثلج دافىء وحنون
مزِّقي يادمشق خارطة الذل - وقولي للدهر كن فيكون
استردت أيامها بك بدر- واستعادت شبابها حطين
بك عزت قريش بعد هوان - وتلاقت قبائل وبطون
كتب الله أن تكوني دمشق - بك يبدأ وينتهي التكوين
علمينا فقه العروبة ياشام - فأنت البيان والتبيين
إن نهر التاريخ ينبع في الشام - أيلغي التاريخ طرح هجين
نحن أصل الأشياء لافورد باق- فوق إيوانه ولارابين
اركبي الشمس يادمشق حصاناً - ولك الله حافظ وأمين.
دم وحبر....
ومن رائعة نزار قباني إلى رائعة تسجيلية لشاعر ومبدع خاض غمار حرب تشرين التحريرية ونال أكثر من وسام لقيامه بأعمال بطولية مجيدة، إنه الشاعر غانم سلمان الذي تعرفت إليه عن قرب، فإذا به قد دوّن صفحات يومية للمعارك التي خاضها وزملاؤه على ساحة المعركة، شاعر آثر الصمت، لاينشر إلا القليل، تحت قصف المدافع، وسعير المعركة وفي لحظات الهدوء الحذرة يدون ماينسكب في النفس شعراً، ونثراً، من طرطوس إلى الجولان شريط من الذكريات تعبر لحظة بلحظة، يمر الأهل أمام عينيه واحداً واحداً فيزداد إصراراً على الجهاد والشهادة فيكتب في مذكراته اليومية التي لم ينشرها بعد يكتب قائلاً:
يا قريتي الحبيبة شوقي وحنيني إليك... غير أن الواجب تجاه البلد الأكبر وتجاهك وتجاه أهلي وأصدقائي ومراتع طفولتي يدفعني أن أظل على يقظة تامة للدفاع والذود عن الكرامة والحرية كي تبقي ياقريتي هانئة حرة، ليتك ياقريتي تعلمين أن ابنك يقف الآن مع المقاتلين الشرفاء في خط النار الأول على مسافة مئات قليلة من الأمتار من العدو الغاشم ،يقسم بك على القتال ويحلم لهذه الخطوط الأمامية بنفس الطمأنينة التي تنعمين بها، وأشجار التفاح والكرز وبساتين الثمار هنا يابلدتي، تتلقى قذائف العدو بعزم، وقطعان الماشية تتحدى الطغيان، وهي تتجول قرب خنادقنا ومرابض دباباتنا لنؤكد استمرار الحياة على الرغم من أساليب الفتك بالحياة... حتى الأشجار والخراف يابلدتي تحولت إلى عناوين صمود ورجولة تقف معنا بعزم وثبات دفاعاً عن الوطن والحرية.
الانسان وكرامة الأرض.
وفي مذكرات غانم سلمان التوثيقية لقطات إنسانية رائعة وتخليد لبطولات جنودنا البواسل الذين رووا تراب الوطن بدمائهم ليصنعوا النصر الحاسم....
وغير ذلك كثير في مداد الشعراء والرواة، ومع ذلك يبقى الحبر مقصراً تجاه عطر الدم الذي قدم لنا هذا اليوم العظيم، يوم اليقظة والتحول...