|
منــــــارة التــــــاريخ والحـــــق ثقافة بدأ كل شيء هادئاً، الهدوء الذي يسبق العاصفة المزمجرة، في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت 6 تشرين الأول عام 1973 حين دقت صفارات الإنذار المتقطعة في كل أنحاء فلسطين المحتلة ولاسيما في تل أبيب وبعد /17/ دقيقة وقعت الاشتباكات الجوية بين الطائرات السورية والطائرات الإسرائيلية وفي الساعة الثانية والدقيقة /32/ من نفس اليوم المشهود، ابتدأ الهجوم السوري والمصري الكاسح والشامل على التحصينات الإسرائيلية التي تذكرنا بتحصينات الحرب العالمية الثانية وقد راحت تتهاوى كمنازل من رمال تحت أقدام الجنود وجنازير الدبابات المنطلقة بشوق عارم لتحرير التراب الطاهر من دنس الاحتلال وغطرسة الصهاينة الذين توهموا بأن جيشهم المزود بالأسلحة الفتاكة الحديثة لا يمكن أن تهزمه الدول العربية والإسلامية مجتمعة، لذلك لم يعوا حقيقة الموقف في الساعات الأولى. وتنقل وكالة (رويتر) الشهيرة من معسكر (نفاخ) الإسرائيلي في مرتفعات الجولان المشاهد الواقعية التالية عن معنويات الإسرائيليين المنهارة تماماً نتيجة الهجوم السوري الساحق: «تتناثر جثث الجنود الإسرائيليين بين حطام الدبابات المحترقة المبعثرة هنا وهناك حول معسكر للجيش الإسرائيلي وعلى بعد أكثر من كيلو متر من ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة الموت كانت تقبع /10/ دبابات إسرائيلية محطمة وكأن قبضة عملاق هشمتها، وقال أحد العسكريين الإسرائيليين إن الحزن العميق سيخيم على إسرائيل عندما تعلن قوائم القتلى وفاتورة الخسائر الفادحة..». لقد أضحت إسرائيل في مأزق استوجب تدخل كيسنجر اليهودي، العمق بالعمق والمدينة بالمدينة هذا ما قاله الناطق العسكري السوري عندما قامت الطائرات السورية بالإغارة على مصافي البترول في حيفا، ضربوا مصفاة حمص فكان الرد السريع في حيفا، كان قصف مصفاة البترول في حيفا صفعة مؤلمة على وجوه جنرالات الحرب فضلاً عن أنه أبرز حدث على الجبهة السورية يوم 20/10/1973. ويعلن القائد الخالد حافظ الأسد للرأي العام العربي والعالمي مغزى هذه الحرب الضروس ولماذا قامت وبعض نتائجها قائلاً بصراحته المعهودة التي لا تعرف في مفرداتها اللغوية التزويق البلاغي ولفظه. «اليوم أحدثكم وقد اتخذت المعركة شكلها الحقيقي، شكل حرب تحرير شاملة، كان أول إنجازاتها تحرير الإرادة العربية من عوامل الضغط الخارجي وصححنا مفاهيم وأفكاراً كثيرة كادت تتركز في العالم الخارجي عن أمتنا، لقد أثبتنا للعالم أن شعبنا ليس تلك اللقمة السائغة التي يسهل على العدو ابتلاعها». كما ويوجه القائد الخالد كلمة مؤثرة إلى المقاتلين العرب وإلى أبناء الأمة العربية: «سلاحكم بين أيديكم وديعة فأحسنوا استعماله، وشرف الجندي العربي في أعناقكم أمانة فصونوا الأمانة، ومستقبل شعبنا في عهدتكم فابذلوا المستحيل دفاعاً عنه». وهكذا يسمو إنسان هذه المنطقة من العالم مهما كان الانتماء الذي يسكن جوانحه في زمن الحرب والمواجهة لأن حياته تكون مرتبطة بالتراب الطاهر والأرض الحنون أمام العدوان الخارجي الذي يتوقف عليه مستقبل ووجود هذه الأمة العريقة ولا خيار هنا، إما التصدي للعدو الغارق بسفك الدماء البريئة ودفعه إلى تجرع طعم الهزيمة أو الاستشهاد في سبيل نداء الواجب وحماية وطن الآباء والأجداد من نهم الطامعين في استلاب حضارته وهويته وخيراته وفي هذا الشأن يبقى المثل الأعلى للعربي، كما أثبتت حرب تشرين التحريرية الاستشهاد في سبيل الوطن المفدى، فالشهداء الأبرار وحدهم يمنعون عن الأمة التفتت والضياع والتلاشي في صحراء الحياة التي لا مكان فيها للضعفاء الخانعين للهوان. وتبقى ملحمة حرب تشرين ونحن في هذا اليوم نحتفل بذكراها المنارة المضيئة الشامخة أبداً في سماء حياتنا وفي نفوسنا التي لا تستكين للضيم والعدوان الخارجي والدافع القوي لاسترداد كامل الحق العربي ولسان حالنا ما قاله الشاعر الكبير عبد الوهاب البيّاتي الذي يغفو جسده بجوار مقام الشيخ الأكبر الفيلسوف ابن عربي: لن يموت الشهداء فهم البذرة والزهرة في أرض الفداء وهم الساحل والبحر وشعر الشعراء تحية الإكبار منا ومن الأجيال التي لم تشهد تلك الملحمة البطولية إلى القائد الخالد حافظ الأسد الذي أطلق هذه الحرب التحريرية وأخذ زمام المبادرة لأول مرة في تاريخ الجيوش العربية وإلى الشهداء الخالدين الذي آثروا نكران ذواتهم فلم يبخلوا بأرواحهم من أجل أن تحيا أمتهم وإلى من شارك في هذه الحرب على الجبهتين والنصر آت في زمن قادم غير بعيد لا محالة.
|