|
الموسيقى والفن التشكيلي ملحق ثقافي هل يمكن حقاً قراءة تلك العلاقة الغامضة بين اللون والصوت؟ وكيف يمكن مثلاً أن نتبين تأثر موزارت بأسلوبيات وإتجاهات الرسم في عصره أوالعكس؟ وإذا افترضنا حتمية التأثر والتأثير المتبادل بين الفنون، فما هوتأثير لوحات بيكاسومثلاً على معاصريه من الموسيقيين، وهل يمكن تحديد عناصر معينة في أعمال بيكاسويمكن ردها إلى تأثره بموسيقى عصره؟ إن النزعة التجديدية والتجريدية في أعمال المؤلفين الموسيقيين في بداية القرن العشرين قد تركت بلا شك تأثيراً حاسماً على الفنون البصرية بشكل عام. وفي بداية القرن العشرين كان الفنانون يتجاوزون حدود الأسلوب التجسيدي في الفن في نزعة قوية بدأت تقترب من التجريد مع التكعيبية والتعبيرية. لقد أدت هذه النزعة إلى تطوير أدوات وظفت الألوان في اللوحة بشكل جديد مما أدى في النهاية إلى ظهور بنية تشكيلية جديدة لا تهتم بالقواعد التقليدية الشكلانية للرسم.
وفي نفس الوقت كان البنيان النغمي العريق للموسيقى الكلاسيكية يتداعى. كانت الأوركسترا قد تضخمت بشكل كبير أصبحت فيه إدارتها متعذرة تقريباً مع نهاية القرن التاسع عشر. لقد وصل شكل الأوركسترا إلى ذروة توسعه في هذا الوقت حيث ضمت كل الآلات الموسيقية القديمة والتي ظهرت حديثاً، خصوصاً بعض آلات النفخ مثل الساكسيفون. وفي هذا الوقت تحديداً بدأ المؤلفون الموسيقيون يتخلون عن الأساليب التقليدية في التأليف متجاوزين للمرة الأولى القواعد السيمفونية للتأليف. لقد بدأ هذا الإتجاه مع ما بعد الرومانسية، حيث تجاوز موسيقار مثل ماهلر ذلك الطابع الدافئ للموسيقى الألمانية، بينما أحدث سترافينسكي ما يشبه الثورة في مفاجأته التي تلقاها جمهوره في باريس عام 1913. في هذا السياق يبدولنا من الممكن أن نرى العلاقة المتبادلة بين التطورات التي طرأت على كل من الموسيقى والفن التشكيلي. وتتضح تلك العلاقة في التزامن بين إنهيار ونهاية الأساليب القديمة في كل من الفنين. فهل كانت تعبيرية كل من مونيه في الرسم وديبوسي في الموسيقى تعبيراً عن روح واحدة؟ هذا سؤال واحد فقط يمكن لنا أن نوجهه كمثال على علاقة الموسيقى باللون؟ ولا تبدوالإجابة بالطبع سهلة أوقطعية في حال توافرها، لكن محاولة الإجابة قد تلقي بعض الضوء على موضوع لم يدرس بجدية حتى الآن. إنه العلاقة بين الصوت واللون كمادتين للإبداع الفني. فبصرف النظر عن موقف الفنانين من تصنيف أعمالهم في مدارس واتجاهات فنية، فإن علاقتهم وتأثرهم بما عاصرهم من فنون واضح وقوي. فمن يستطيع مثلاً ألا يسمع في موسيقى ديبوسي أصداء لألوان الإنطباعية التي أنتجت لوحات عظيمة وألوان خاصة؟ إن العلاقة بين الموسيقى وفن الرسم أوبين الصوت واللون تتضح من خلال تتبع المراحل التي مر فيها كل من الفنين في تطورات إتجاهاتهما ومدارسهما وأساليبهما. بالنسبة للفنان التشكيلي الذي يسعى نحوتخطي التجسيد في اللوحة توفر الموسيقى مرشداً لأنها تمثل نموذجاً للتجريد في شكله الصرف والمطلق. وكما يقول فرانسس غاي : إن الموسيقى تحرر من التجسيد والمحتوى السردي، وهي توفر قابلية التواصل المباشر مع عالم الروح والعاطفة. لذلك كانت الموسيقى ملهماً للفنانين الذين يسعون إلى تحقيق نفس الأهداف في تجاوز المجسد والمرجعي في الفن. إن النزوع الجارف الذي دفع كل من الموسيقى والرسم إلى تجاوز لغة التجسيد والسرد والتمثيل في القرن العشرين لم يكن فقط بحثاً عن لغة جديدة، بل كان في جوهره ثورة على الأشكال التقليدية ورغبة في استعادة الفطري والعفوي في الفن عبر التحرر من الشكل والمرجعيات الواقعية. من المؤكد أن كلاً من الموسيقى والرسم فنان مختلفان في المادة واللغة، لذلك يتعذر إجراء مقارنات تعسفية تتجاهل خصوصية كل منهما. فالموسيقى فن تجريدي بامتياز، رغم أننا لا نستطيع إنكار حقيقة أن العديد من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية تحتوي ما يمكن تسميته بمحتوى سردي لموضوعات تاريخية أوأسطورية أوأدبية. لكن رغم تلك الإستثناءات، تبقى الموسيقى كلغة تجريد يصعب مقاربته من خلال نماذج شكلانية أوتجسيدية. أما بالنسبة للرسم، فإن التجريد ليس طبيعة جوهرية فيه من حيث المبدأ، لكن اللون عنصر يشبه الصوت في الموسيقى من حيث كونه لا يخضع لقوانين ثابتة في دلالاته. ومن هنا تبدوالعلاقة بين الموسيقى والرسم حالة خاصة يمكن من خلالها استكشاف الآليات المعقدة التي تنظم علاقة الفنون فيما بينها. إن أشكال تلك العلاقات بين الفنون تقع كلها تحت عنوان الحوار، الحوار بين أساليب تعبير مختلفة. وإذا كان تاريخ هذا الحوار ما يزال غامضاً وغير قابل لإنجاز أجوبة جاهزة ونهائية، فهذا شأن الفن والإبداع دائماً حيث يكون الأفق دائماً مفتوحاً على الأسئلة والغموض والدهشة. * ناقد بريطاني. نشرت هذه المقالة في مجلة نيوستاتمنت الشهرية البريطانية. ا
|