ندرك، نحن والعلم أجمع، أن الحضارة العربية أثرت في تاريخ العالم، وحولت مساره فكرياً وتقنياً، ونعلم أن الغرب – ذلك المستثمر الجيد – قد أقام حضارته التقنية الحالية من آلات صنعها العرب في أيام قوتهم ومجدهم. ونعلم جيداً أن فلاسفتنا الكبار كابن رشد وابن سينا وابن خلدون كانوا سادة في مناهج التدريس الجامعي في أوروبا لمدة ستة قرون.
ماذا يعني كل ذلك؟ هل يعني أن نكتفي بالتصفيق لماضٍ لا يمكن أن يفيدنا في شيء ونحن مسرون أمام منجزات الآخر الفكرية والتقنية، ونهلل لها، ونتهمها بأنها مسروقة منا ومشغول عليها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه؟
لا يعني الماضي شيئاً، إذا لم يرسم مسار المستقبل، وإذا لم يكن الحاضر منفعلاً بشكل كبير بتفاصيل الماضي ومنجزاته. وعليه، فإن كل عودة إلى الماضي العربي، فقط لمجرد التباهي به، تدل على عجزنا عن إيجاد مكان فاعل لنا في الحضارة المعاصرة، حتى وإن تنطح كثيرون وأعلنوا أن هذه الرقعة الجغرافية - الوطن العربي - وهذه الكتلة البشرية الهائلة لها فاعلية في تاريخ العالم، وفي تقدمه.
يبحث كتاب )التلامس الحضاري الإسلامي - الأوروبي( في دور الحضارة الإسلامية في تقدم الحضارة العالمية في العصور الإسلامية الأولى. وتصور الكاتبة الدكتورة إيناس حسني قدرة المبدع المسلم في شتى المجالات وتقول: «لقد قامت الثقافة العربية الإسلامية بدورها الطليعي خير قيام في بناء النهضة العلمية العالمية، وقد نقل العلماء العرب والمسلمون التراث الإغريقي وغيره من ألوان التراث العلمي الذي تقدم عليهم في التاريخ، نقلوه إلى اللغة العربية، التي كانت لغة علم وثقافة، وأثر العلماء العرب المسلمون في النهضة الأوروبية، وكان طابع الثقافة العربية الإسلامية غالباً وواضحاً ومؤثراً في عديد من المجالات العلمية والفكرية والثقافية مثل ابتكار نظام الترقيم والصفر والنظام العشري، ونظرية التطور قبل داروين بمئات السنين، والدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بأربعة قرون، والجاذبية والعلاقة بين الثقل والسرعة والمسافة قبل نيوتن بقرون متطاولة، وقياس سرعة الضوء وتقدير زوايا الانعكاس والانكسار، وتقدير محيط الأرض، وتحديد أبعاد الأجرام السماوية، وابتكار الآلات الفلكية، واكتشاف أعالي البحار، ووضع أسس علم الكيمياء».
لم يعش العرب منعزلين عن العالم، وقد أفادوا من الحضارات السابقة عليهم والمعاصرة لهم، من يونان وهند وفرس ورومان، ولكنهم في عصور القوة عملوا على ما أخذوه وطوروه وأضافوا إليه الشيء الكثير. كان هناك فعل حقاً، وكانت هناك حركة دائبة لصنع المستقبل، أما الآن، وبسبب السكون المريع، فقد بدا أن هناك فصلاً مرعباً بين الماضي والحاضر: ماضٍ شديد الوهج ومبهر، وحاضر باهت وقاتم.
قسمت الكاتبة كتابها إلى أربعة أبواب تضم اثني عشر فصلاً وخاتمة. تناولت في الباب الأول الفن الإسلامي والنهضة الأوروبية. ونوهت إلى أن هذا الفن ولد في القرن الأول الهجري وازدهر في القرنين السابع والثامن الهجريين، متأثراً بالفن البيزنطي والساساني والصيني والقبطي. نشأ هذا الفن في عصر بني أمية، وكان الطراز الأموي أو الطرز في الفن الإسلامي «فلما جاءت الفتوحات العربية وامتدت الدولة الإسلامية واتسع نطاقها واختلط العرب بأمم ذات حضارة زاهية، أثروا في هذه الأمم كما تأثروا بهم». ومع انتقال زعامة العالم الإسلامي إلى العراق، اتخذ الفن الإسلامي اتجاهاً جديداً، بسبب غلبة الأساليب الفنية الإيرانية عليه. وهكذا فقد بدا واضحاً كم أخذ الفن الإسلامي من أصوله عن الفن الساساني.
أثرت الثقافة الإسلامية في الغرب المسيحي، ويقول كولر يونغ في هذا الصدد: «إن الدَّين الثقافي العظيم الذي ندين به للإسلام، منذ أن كنا نحن المسيحيين، خلال هذه الألف سنة، نسافر إلى العواصم الإسلامية، وإلى المعلمين المسلمين، ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الإنسانية، يجب التذكير به دائماً. وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الإسلام على رعايته خير قيام، حتى استطاعت أوروبا مرة أخرى أن تتفهمه وترعاه. كل هذا يجب أن يمازج الروح التي نتجه بها – نحن المسيحيين – نحو الإسلام، نحمل إليه هدايانا الثقافية الروحية، فلنذهب إليه – إذن – في شعور بالمساواة نؤدي إليه الدَّين القديم. ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدينا ما علينا بربحه. ولكننا سنكون مسيحيين حقاً، إذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا في حب واعتراف بالجميل».
آنذاك، أدت الثقافة العربية الإسلامية دورها، وحافظت على الثقافة اليونانية من الضياع، وشروحات ابن رشد على أرسطو خير دليل على ذلك، فلولاها لما أقام الغرب نهضته الفكرية، من دون أن ننسى فضل ابن سينا وابن خلدون و الفارابي، وغيرهم من كبار مفكري العالم حتى اليوم. وحتى إن الغرب بعلمائه ومفكريه المعاصرين أثنى على ثقافة العرب والإسلام ودورها في نهضة الغرب، وتقول عالمة ألمانية في ذلك: «إن تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها أوروبا عدة قرون، تجعلنا نعجب أشد العجب، إذ هي لم تكن امتداداً حضارياً لبقايا حضارات غابرة، أو لهياكل حضارية محلية على قدر من الأهمية، كما لم تكن أخذاً لنمط حضاري موجود، أو تقليداً ينسج على منواله المعهود، كما نعرف في الأقطار الأخرى مهد الحضارات في الشرق. إن العرب بثقافتهم هم الذين أبدعوا هذه الروعة الحضارية إبداعاً».
عمت الحضارة الإسلامية العالم لمدة خمسة قرون، وانتشر الفن الإسلامي في أوروبا، حتى إن الأوروبيين استعانوا بكثير من المعماريين العرب في إشادة أبنيتهم ومنها على سبيل المثال عمارة النوتردام في باريس. وكان لفن العمارة الإسلامي في إسبانيا دور كبير في التغير الحاصل على العمارة الغربية، حتى إن بعض الأبنية استقت الأسلوب الإسلامي، غذ بدت الزخرفة العربية واضحة، واستخدم الخط العربي لما له من جمالية فريدة، في زخرفة الكنائس ولمذابح.
في فصل )فنانون مسلمون أثروا الفن الإسلامي( تذكر الكاتبة أحد أهم مصوري المسلمين وهو يحيى بن محمود الواسطي، الذي اشتهر بكتابة نسخة من مقامات الحريري وتصوير مناظرها بيده، وقد فرغ منها سنة 634 هجرية. وهذه المخطوطة محفوظة في دار الكتب القومية في باريس، وهي أول عمل في التصوير الإسلامي معروف صاحبه، وله خصوصية ولم يذعن للقوالب التقليدية التي يعرضها الفن المسيحي أو الساساني. وتتميز لوحات المخطوطة بموضوعاتها الواقعية ولوحاتها ذات القيمة الفنية العالية.
تأثر فنانون كثر بالفن الإسلامي، وكان أبرزهم تلك المجموعة التي أسست الانطباعية، فقد زار ديغا الجزائر عام 1872، وصور عدة مشاهد خاصة ومبتكرة متأثرة بالفن الإسلامي، حتى إنه في بعض أعماله يستلهم أشكال الكتابات العربية في زخرفة بعض الأقمشة. ثم زار رينوار الجزائر بعد سبع سنوات، فتأثر فنه بالزخرفات الإسلامية. أما ديلاكروا – زعيم الرومانسيين – فهو من أوائل الفنانين الذين اهتموا بالشرق، غذ سافر إلى مراكش وتنقل بين طنجة ومكناس وسافر إلى وهران والجزائر، فرسن )نساء من الجزائر(، وغيرها من اللوحات التي تظهر تأثره بالتصميم الزخرفي العربي الإسلامي. وبعد ديلاكروا يأتيس هنري ماتيس منبهاً إلى أهمية تراث الشرق العربي الإسلامي، مع فارق أن «ديلاكروا قد وقف عند حد نقل الزخارف والأشكال من دون تعمق في رقي ومنطق الفن الإسلامي، بينما أخذ ماتيس غنى جوهر الأشكال ومنطق تأليف الزخارف والفنون العربية، ليضيف إلى تجربته، بل إلى تاريخ الفن الحديث كله، رؤية جديدة غنية، وليعتبر من أكثر فناني القرن العشرين الذين استفادوا بقدر كبير من الفن الإسلامي، وفتح به آفاقاً جديدة لرؤيته».
إن كلاً من هنري ماتيس وبيكاسو وفاسيلي كاندينسكي وبول كلي وبيت موندريان وفيكتور فازاريللي وخوان ميرو وأندريه ماسون ومارك توبي من أبرز الفنانين المحدثين الذين تأثروا بالفنون الإسلامية في أعمالهم الفنية، وبذلك فقد أعادوا اكتشاف الفن الإسلامي لخدمة الفن في العالم.
عنونت الدكتور إيناس حسني الباب الرابع «ظلال الفن الإسلامي على مدارس الفن الحديث» وتحدثت عن مدرسة التأثريين وعلاقتهم بالفن الإسلامي، ثم توقفت عند الوحشية كنقطة انطلاق نحو الفن الإسلامي، تقول: «إن هذا الفن الثائر النقدي، بما ينطوي عليه في الوقت نفسه من معاني العفوية والطفولية البريئة، كان أول ثورة فعلية على جمود الفن التقليدي العقلاني الرصين وأول انطلاقة حقيقية من قيود الطبيعة، وأسر محاكاتها، وأول خروج جريء على مفاهيم الشكل واللون». لقد قام زعيم الوحشية ماتيس باكتشاف جوهر الفن الإسلامي واستلهام قيمه الجمالية والفنية، وخلق أسلوب جديد عريق الجذور، وحين أقيم معرض للفن الإسلامي في قصر اللوفر في باريس عام 1903، قال ماتيس: «لقد كان هذا المعرض بالنسبة إلي درساً في النقاء والانسجام». وقال الناقد جين: «لقد تكرس الفن الإسلامي في رؤية ماتيس منذ ذلك المعرض».
تأثر بيكاسو وتكعيبيته بالفن الإسلامي، وهذا ما يقرره الناقد أوليفييه داللون: «إننا نستطيع أن نقرر أن بيكاسو في الواقع لم يتأثر بشكل فن النحت بقدر ما تأثر بمفهومه القديم الظاهر في الفن الأفريقي الإسلامي الذي انتشر في بلاده زهاء ثمانمائة عام، والذي حمل تلك الخصائص التي تبناها بيكاسو، وأهمها تجريد الشكل الإنساني من ملامحه الطبيعية وإظهاره في صورة جديدة». وتضيف إلى ذلك الناقدة غيرترود شتاين مؤكدة: «وهكذا فإن الفن العربي الذي كان غريباً بالنسبة إلى ماتيس، أضحى بالنسبة إلى بيكاسو شيئاً أليفاً واضحاً ونامياً».
نعم، لقد أثر العرب والمسلمون في حضارات العالم، على مدى زمن طويل، وقادوا زمام المبادرة لعدة قرون، وتولى غيرهم فيما بعد الثورة الفكرية والعلمية والتقنية، مستفيدين مما طوره العرب عن غيرهم وطوروه بدورهم. والآن، تحول العرب إلى مشاهدين بلا فاعلية، وكأنهم لا يريدون النظر إلى ذلك التاريخ بشكل حقيقي، ولا يريدون أن يتمعنوا في تاريخهم العظيم الذي غيّر وجه العالم.
الكتاب: التلامس الحضاري الإسلامي – الأوروبي
الكاتبة: د. إيناس حسني
الناشر: سلسلة عالم المعرفة، الكويت