اليوم أصابني شيء يشبه الهلوسة.. فمزقت كتبي الشعرية المطبوعة ومخطوطاتي.. وكل ما طبع في الجرائد الوطنية. أفرغت المكتبة من الكتب وكدستها في حديقة بيتي، ثم أضرمت النار فيها.
منذ كنت صغيرا.. شغفت بالكتب التي كان يجلبها لي أبي من مكتبة قديمة،أغلقت أبوابها بعد موت صاحبها، لكن رائحة الحروف مازالت، تغزو كياني كلما مررت في الزقاق الضيق حيث بنيت .
عندما طبعت الكتاب الشعري الأول على نفقتي الخاصة، دسست أكثر من أربعين نسخة في حقيبتي الجلدية ومضيت إلى دمشق.
في داخل الباص شدتني رائحة الكتب المعبأة في حقيبتي. لدرجة أنني حركت أرنبة أنفي تحببا، ثم أغمضت عيني متخيلا بشكل أعمق البعد العميق لتلك الرائحة.
هناك في الازدحام الكبير، استوطنتني رائحة جديدة، رائحة العبور نحو الضجيج رائحة البشر العالقين في الصراخ و الصمت.. و الملوثين برائحة الشهوة والمال و الطعام.
إلى ملتقى الرحم الأول عدت، الرحم الذي حملني وأطلقني بحرية في أزقتها الضيقة وبيوتها المتراصة. في دمشق ولدت، وفيها عشت سبع سنين بمخيلة حارة كنبع ساخن.
لم تكن مثلما كانت من قبل، لقد تغيرت رائحتها وتبدل شكلها. لم أعرفها. كان فيها شيء من زوال الذاكرة وخفوت الذات واندثار التعاطف البشري مع حميمية المكان
لقد حجبت روحها بسحب من الضباب الكثيف.. بسحب امتصت طفولتي بذاكرتها الممطرة دائما.
مضيت إلى غايتي مثقلا بي وبكتبي.. مثقلا بالرائحة وجوهرها.
أصحاب المكتبات، لم يقبلوا بعرض كتابي في مكتباتهم الفخمة. الكثير منهم، كان يرفض بإشارة من سبابته، لسبب بسيط وهو أنني شاعر مجهول . والقليل منهم كان يقول لي: نحن نعرض الكتب الدينية والتاريخية والفكرية والسياسية وكتب الطبخ، والكتب التي تتحدث عن الأفلاك والنجوم والعرافة والسحر.
عدت خائبا مكسور الخاطر.. ومهموما جدا .
المكان الذي ولدت فيه، عبأ أنفي برائحة ضالة.. برائحة معجونة بالغبار ودخان السيارات واللهاث البشري وكلمات سحرة الكتب وعفونة مجهولة .
وأول مافعلته عند عودتي إلى حمص.. هو زيارتي للمكتبة المهجورة.. واستنشاق تلك الرائحة المحببة إلي.
ولأن روائح الكلمات كانت تطغى على رائحة زوجي، فقد خيرتني بين رائحتها وبين رائحة كتبي.
عندها كان لابد لي من حرق تلك الرائحة.. وفعلت مايفعله الهنود مع موتاهم.. فبعد أن خمد ت النار في الكتب المتجمعة في الحديقة، عبأت الرماد في زجاجة كبيرة ووضعتها على رف خشبي قديم، قدمه لي والدي حينما أهداني أول كتاب لأقراه.