وفي تأملنا إلى ماتفرزه الحياة الثقافية العربية وغير الثقافية سنجد اختلاف مظاهر هذه الحقيقة حتى ولو نحيّنا جانبا جبال البيرنيه كحاجز طبيعي قائم بين شعب وآخر.. فنحن رغم كل ما يؤكده الصوت العربي فينا من وحدة التاريخ واللغة والمصير ظلت الحقيقة الثقافية والفكرية والفنية وستبقى أبعد ماتكون عن الحقيقة الرياضية الأحادية..
من بوتقة هذا التباين تنوعت المواقف حيال صلح الحديبية وتعارضت لاحقاً مواقف ابن رشد مع الإمام الغزالي ونجم عن هذا التعارض والتعارض المضاد إزاء المنجز الفلسفي: تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت.. وعلى الصعيد الإنساني بمستوياته المتعددة لا تبدو المواقف ذاتها متماثلة من الحياة أومتشابهة منها وكذلك الموقف من الموت أيضاً.. لذلك نجد التعبير عنهما ليس واحداً.. فكما الإنسان في بعضه شغوفاً بالحياة، خائفاً من أن تتسرب منه وتغادره، ففي بعضه الآخر يذهب إلى نقض ذلك ليحقق ماهو أغلى من الحياة من وجهة نظره المتباينة مع الآخر المتمسك بها: والتباين كماهو ماثل بين هذا البعض وذاك ليس بين الشخصيات العادية والثقافية؛ بل بين الشخصيات الثقافية نفسها.. فلا يمكن عدّ كراهية حنا مينه للحياة الطويلة واعتبارها مصدر سأم ، متشابهة ومتماثلة مع كراهية خليل حاوي للحياة في ظل اجتياح بيروت من قبل الأعداء الصهاينة واقدامه على الانتحار احتجاجاً على ذلك.. كما لا يمكن تجاهل المسافة القائمة بين نظرة الكثيرين من الشعراء العرب للقمر- مثلاً- واعتبارهم له مرادفاً لجمال الحبيبة وشريكاً للسهاد في ملكوت سحرها وبين رؤية محمود درويش التي تعتبر القمر شاهد زور وخائناً يستحق القتل بعدما غادر الليل خلسة دون مجيء الخلاص الفلسطيني.. ولا يمكن أيضاً وضع شهيد الكلمة القائلة: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، على سطر واحد مع صاحب الكلمة الأخرى المهادنة للاحتلال والمتعايشة معه:
إذاً ثمة مسافة بين موقف وآخر يتعلق بالعديد من القضايا الحياتية ومسائلها الفكرية والقيمية المتعددة التي تنتفي عنها الصفة الرياضية وحقيقتها المحسومة التي لا تقبل الجدل حيث تتجلى في مظهرها وجوهرها تلك الحقيقة الأخرى الكامنة في العلوم الإنسانية وفنونها المختلفة التي لاتركن في خلاصاتها إلى مسلمات نهائية والتي تأخذ نتائجها منحىً نسبياً لا تبلغ فيه حد الشمولية والتعميم باعتبار أن رؤاها وخصوصاً الفنية والجمالية تقوم على التذوق الذي من طبيعته التباين والتعدد وعدم التوافق والتطابق: وإلا ماذا نفسر خروج الشاعر اللبناني الشهير سعيد عقل عن رأي الكثيرين في قوله عن شاعرية المتنبي بأنها تكمن في بضع أبيات ليس إلا.!. وكذلك قول الشاعر المصري المعروف صلاح عبد الصبور بأنه قرأ كل شعر المتنبي وخرج منه صفر اليدين بلا فائدة.!!. وماذا يمكن أن نستخلص من إشادة العديد من الشعراء العرب بتنظير أدونيس الشعري وتراجع نسبة هذه الإشادة واختلاف مواقفهم حول جمالية كتابته الشعرية..
إن الإختلاف في المواقف وعدم انجرارها إلى صفة أحادية كلية وجمعية في استقراء ما يشي به مخزون السياق اللغوي في خزائن المعنى وتذوق ما تومض تراكيبه من صور فنية يؤكد على تعدد وجوه الحقيقة الجمالية وخلاصاتها الفكرية الساعية إلى التعبير عن النشاط الذهني والعقلي وماينتجه من منجز إبداعي يقوم أساساً على التنوع والتناقض والاختلاف.. وفي هذا الصدد يذهب أندريه جيد بعيداً في قوله: إن عظمة الإنسان تكمن في كونه كائناً متناقضاً وهو ما يجعل المواقف الإنسانية أقرب إلى الحقيقة الفكرية والفنية الغنية بأطيافها المتعددة من الحقيقة الرياضية الأحادية المجردة.. وهو ما سيدفعنا إلى القول بأنه ليس ثمة ما يبرر عدم قبول الرأي والرأي الآخر المختلف مع مزاجنا الفكري والمتعارض مع تذوقنا الفني والجمالي... فلا عصمة للأفكار والنظريات الوضعية.. ولاكمال لأي نص إبداعي شعري أو سردي: ولا صنمية لكاتب أو مفكر أو أديب أمام النقد الموضوعي العميق الذي يعطي للمنجز الإبداعي حقه وأبعاده ومراميه كما يعطي لمبدع هذا المنجز مكانته الحقيقية اللائقة...
من خلال هذا الفحوى نقارب الإمام الشافعي في مقولته الشهيرة: رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب: ومن خلال هذا الفحوى أيضاً نتفهم مقولة أدونيس التي يشير فيها إلى أن جماهيرية نزار قباني حجبت عن تجربته الشعرية النقد الحقيقي والعميق آملين ألا يتراجع النقد أو ينكفئ أمام أدباء وشعراء آخرين طالما أنهم ليسوا قديسين وطالما أن نصوصهم ليست كتباً سماوية منزلة..