تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الخيال وتحديات الحضارة

ملحق ثقافي
6/10/2009
فائزة داؤد

هل سيحد التلفزيون من جموح المخيلة البشرية؟ أم أنه عاجلا أم آجلا سيؤدي إلى انحسارها؟

سؤال يطرح نفسه في زمن يشهد فيه العالم تفجرا غير مسبوق للإعلام المرئي وإقبالا منقطع النظير من قبل الجمهور على مواكبة أحداث العالم من خلال هذا الجهاز الصغير. وفيما عدا النخب التي ما زالت تهتم بالإعلام المكتوب أو المسموع أحيانا، فإن التلفزيون صار الموجه الرئيسي لأفراد الأسرة، أطفالا كانوا أم شبانا وشيوخا. فهو الحكواتي والفوتوغرافي والرحالة وهو صندوق الفرجة وساحة السيرك وفي الوقت ذاته هو عالم الكتب والقصص والملاحم والأساطير. أبطالها يأتون إلينا عبره يقومون بأدوارهم ويرحلون.‏‏‏

والتلفزيون هو العالم الذي نتلصص من خلاله على حياة الناس فنرى أدق تفاصيل حياتهم وأكثرها إغواء وتشويقا، بل قد نتلصص على أنفسنا فنرى مشاكلنا وهمومنا دون أن يشي بنا أو يذكر أسماءنا أو يشهّر بنا. ولذلك صار الصديق الصدوق والموجّه الذي، برأي الآخرين، لا يخطئ أبدا.‏‏‏

لنسلم بحقيقة تقول: إن التلفزيون عالم غني ومتنوع وبأنه قدم لنا خدمات عجزت أية وسيلة إعلامية عن تقديمها.‏‏‏

‏‏

ولكن، ألم يأخذ منا وقتنا ؟ ألم يؤثر في اتجاهاتنا وتوجهاتنا؟ ألم يسرق منا حاجتنا للمعرفة العميقة «خاصة كوننا نحن العرب أمة لا تقرأ»؟ ألم يصادر حريتنا ويؤثر على مخيلتنا؟‏‏‏

حين كنا صغارا كانت حكايات الجدات عالمنا الغريب والزاخر بالعجائب والغرائب. نستمع إلى بطولات عنترة العبسي فيعيد كل واحد منا خلق عنترة خاصا به، وكذلك عبلة، حيث يصبح لكل متلق عبلة خاصة به، أحيانا يرسمها بالطبشورة والقلم. وحتى أبطال كتبنا المدرسية كنا نعيد خلقها من جديد. وأذكر جيدا أننا حين كنا في المرحلة الابتدائية حكى لنا الأستاذ قصة السندباد البحري، ويومها أدى خلاف بين تلميذين حول حجم سفينة السندباد إلى ضرب بالحجارة والعصي، حيث رسم كل منهما سفينة السندباد كما تخيلها هو وبالطبع كان لكل منا في ذلك الوقت تخيله الخاص عن سفينة السندباد. وهو بكل تأكيد لا يشبه خيالي التلميذين المختلفين، والغريب أن الأستاذ يومها لم يشأ أن يحسم الخلاف، بل ترك لكل منا حرية تخيل سفينة السندباد، وأخمن أنه كان له خياله الخاص الذي لم يشأ تأطيرنا به ومصادرة الخيالات الأخرى.‏‏‏

إذن لنقل أن العالم قبل التلفزيون كان خيالا. ولكن، كيف أصبح العالم بعد أن حول التلفزيون الخيال إلى حقيقة؟ وماذا قدمت هذه الحقيقة للإنسان؟‏‏‏

هل سفينة السندباد التي رسمها خيالنا أحلى من تلك التي رأيناها على شاشة التلفزيون، وهل عنترة المتخيل أفضل من عنترة التلفزيوني، والذي هو بالطبع صنع خيال واحد أدى إلى قتل الآلاف بل الملايين من عنترة المتخيل في رؤوس المتخيلين.‏‏‏

لقد تم قتل الأخيلة لصالح خيال واحد وعملية القتل هذه طالت آخرين من أبطال ألف ليلة وليلة الرئيسيين والثانويين. حيث أصبحت الحكايات حكاية واحدة صنعها خيال واحد وأخرجها لنا على شاشة التلفاز ليقتل بها كل الحكايات المتخيلات، وكان مصير الملك شهريار أو القاتل يشبه مصير شهرزاد، حيث تم اختصار القتلة المتخيلين بقاتل واحد خلقه خيال واحد وكساه لحما وألبسه زيا ابتدعه بنفسه حارقا بذلك كل الأزياء المتخيلة وكأنه يقول لهم: لقد شطح خيالكم! فشخصية شهريار الحقيقية هي الشخصية التي ترونها أمامكم.‏‏‏

ترى هل تنسحب عملية القتل على كل شخصيات الأعمال الكبرى التي تحولت إلى مسلسلات تلفزيونية أو أعمال سينمائية؟‏‏‏

الجواب هو نعم، فأية شخصية ومهما كانت خرافية أو متخيلة فإنها حين تجسد وتصبح حقيقة يمارس عليها فعل القتل. فإذا أخذنا على سبيل المثال إلياذة هوميروس التي حولت إلى فيلم سينمائي ضخم، نجد أن الشخصيات الرئيسية قتلت كمتخيل حين جسدت بأشخاص من لحم ودم حيث حل أخيل الحقيقي مكان المتخيل،فبدا رجلا عاديا يقتل كأي محارب، ولا يملك قدرات خارقة وطاقات أسطورية كما تحدث عنه هوميروس، وأقدر أن أخيل في رؤوس المتخيلين كان يقارب الأسطورة وربما تخيله البعض بجناحين أو رآه بعضهم أسمر كونه من سكان المتوسط، وهو هرقلي البنية ذو عضلات نافرة وقوية تمنحه قوة أسطورية كونه مقرب من الآلهة.. إلخ..باختصار لقد قتل أخيل المتخيل من رؤوس المتخيلين وحل مكانه أخيل واحد صنعه خيال المخرج. أما هيلين، أجمل امرأة في العالم، فأقدر أن هذه الشخصية حين جسدت وتزيت وفق توجه خيال واحد أصيب الكثير من المتخيلين بالخيبة والإحباط، لأن كل واحد منهم كانت له هيلين الخاصة جدا به تحمل شيئا من وصف هوميروس وهو أنها أجمل امرأة في العالم ، لكن من هي الأجمل في رؤوس المتلقين الذين قرؤوا الإلياذة؟ هل هي شقراء أم سمراء؟ أمر تراها صهباء أم صفراء؟ أهي طويلة أم قصيرة أم متوسطة القامة؟ ما لون عينيها وماذا ترتدي؟ ما لون ثوبها؟ ...‏‏‏

لقد قتل خيال فرد واحد كل الأخيلة، حين أظهر هيلين شقراء نحيلة متوسطة القامة تقوم بمغامرات بلهاء وتبوح بمكنوناتها بسذاجة. إنها مخلوقة بشرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، على عكس ما تخيل قراء الإلياذة. وهذا أيضا ينطبق على هيكتور وأغاممنون وبريام وغيرهم.. فهؤلاء جميعا قتلهم تخيل واحد خرج من رأس فرد أطلقه ليكون بطلا لأعظم ملحمة شعرية في تاريخ البشرية.. وهذا ينسحب بالطبع على كل الشخصيات الأسطورية والروائية الحالية. فثمة راسكولينكوف متخيل في رؤوس العشرات بل الآلاف من المتلقين الذين قرؤوا الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، وحين يظهر راسكولينكوف واحد على شاشة التلفاز، فأول شيء سيفعله هذا الظهور هو قتل جميع الأخيلة الراسكولينكوفية المعشعشة في الرؤوس. وهذا ينطبق أيضا على فضاء الأعمال الملحمية الروائية والقصصية حيث تم تأطيره بتنوعات جغرافية حجمت من مخيلة المتلقي بل وقمعتها .‏‏‏

الأسئلة التي تطرح نفسها الآن هي: هل البشر بعد قتل الخيال سيكونون أكثر سعادة من البشر مع الخيال؟ أم سيأتي يوم تطلق فيه البشرية رصاصة الرحمة على قتلة الأخيلة وبذلك تستعيد جموحها وسعادتها وخيالها المصادر؟ أم أننا وتبعا لنظرية داروين سيأتي يوم تضمر فيه المنطقة المخصصة في الدماغ للخيال والتخيل فلا نعود بحاجة إلى طرح هكذا تساؤلات؟‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية