ثمّ يذكر الهاجس الذي دعاه إلى تخصيص كتاب للأنا، حيث يقول: «ألا وهو تذكير بالأنا الذي ضاع في خضمّ النسيان من جرّاء الإعلاء من شأن النحن». محاولاً إعادة الاعتبار للأنا كوجود ذاتي مستقلّ يمارس طقوسه كلّها، ليأتي كتابه «الأنا» كتابَ المفكّر المنهمّ بقضايا ومشاكل مجتمعه وعصره، يطرح الكثير من القضايا الشائكة، يخوض فيها تحليلاً وتنقيباً، شرحاً وتفصيلاً، معتمداً على «أناه»، من دون العودة إلى المراجع.
هناك من المفكّرين مَن دعا إلى وجوب إيلاء الأهمّيّة للفرد، منهم ميشيل فوكو في كتابه «الانهمام بالذات»، وكانت النزعة الفردانيّة تؤكّد الاستقلاليّة الواجبة المطلوبة، ليكون هناك مجال للإبداع والاختلاف، ولا تندرج المحاولة في إطار دفع «الأنا» ليدلّ على الأنانيّة والأثرة، ردّاً على الإيثار الذي يُطالَب به، ويشكّل قيمة سامية بحدّ ذاته، مهما كانت النتيجة، بل إعادة الاعتبار له في عالم ينفيه، ويطالب بنزع الأنَوات المتفرّدة، لتضيع في زحام الكلّ الضبابيّ، أو النحن المَقودة المذوّبة..
ينطلق الدكتور برقاوي من التعريف اللغويّ للـ«أنا»، التي هي ضمير رفع منفصل، يستخدم للدلالة على المفرد المذكّر والمفرد المؤنّث سواء بسواء، ثمّ يسهب في دلالات هذا الضمير ومنها، أنّه ضمير يُبدأ به تأكيداً للحضور المتميّز عن الآخر، وأنّه تأكيد لجوهر ماهويّ، وهو بمثابة بطاقة تعريف إلى الآخر، أحياناً يمثّل أعلى درجات التوحيد، وأحيناً أرفع درجات الحبّ إزاء الآخر، حيث تأمّل كلّ فرد لأناه يساعده على تأمّل الأنا بالإطلاق.
يقسّم برقاوي كتابه إلى خمسة فصول وكلّ فصل بدوره يضمّ عدداً من العناوين الفرعيّة، إضافة إلى الافتتاح والخاتمة، وفصل ملحق تحت عنوان «شذرات»، ترد الفصول بالترتيب التالي: - الأنا والوعي الذاتي. – الأنا في الأسر. – نفي الآخر. – الوجود المأساويّ. – وعي الوعي.
في الفصل الأوّل: «الأنا والوعي الذاتي»، يتحدّث الكاتب عن الأنا الذي يعي أناه، ويصبح ذاك الوعي خاضعاً لوعي الآخر به، حيث كلّ أنا يعيش وعيه الذاتيّ بانفصال حقيقيّ، «أنا ظاهر وأنا خفيّ. أنا عالم من السرّ ومن الظاهر»، ثمّ ينطلق من السؤال: مَن أنا؟ إلى سؤال أعمّ: ما الأنا؟ يصف الأنا بأنّها «شخصيّة حاضرة دائماً في تجمّع إنسانيّ، إنّها لغة، قيم، عادات، طموحات، أهداف، رفض، قبول... الأنا ليست مجرّد إحساسات، الأنا ليست بيولوجيا، الأنا اجتماعيّة ثقافيّة». ص 15. كما يؤكّد الكاتب أنّ الأنا وجود كلّي معقّد يكتسب تمايزه بالوعي الذاتي. وهو يوجد في عالم يوجد فيه وبه، ويؤكّد أنّ الطبيعة الجامدة غير الواعية لا تقيم علاقة مع الأنا، حيث «الطبيعة وجود حياديّ هيوليّ يشكّلها الأنا وفق أهدافه وقدراته». ص16. ثمّ يصل إلى النظام المتعالي الذي يتكوّن في بنيته من عدد من العناصر التي يُعتقد أنّ فيها الخير للناس، وهي تدور في فلك القيم والدين والجنس، مع وجود عناصر مستقلّة في كلّ عنصر، حيث هنالك ارتباط وثيق بين هذه العناصر التي تشكّل بنية النظام المتعالي الذي يجد فيه الأنا نفسه منشطراً، يواجهه نظام متعالٍ آمر مُلزم قمعيّ، دون أن يكون له أيّ دور في صناعته بوصفه أنا فرداً. فيحاول التكيّف معه، ما يدفع إلى التشتّت، فيكون الأنا السويّ والأنا المتمرّد، وتنشطر الأنا، ومن الأمثلة البارزة التي يذكرها الكاتب عن انشطارات الأنا، الموقف من المرأة أو وعي الرجل الشرقيّ بالمرأة، «فهو يريدها في الوقت نفسه عاملة وذات زيّ قديم، متعلّمة وذات سلوك عامي، متحرّرة وذات موقف حذر من الرجل، مشاركة في الدخل وذات وظيفة بيتيّة مطلقة، مندرجة في الوسط الاجتماعيّ بحكم المهنة ومحرومة من الرأي في الزواج، فاعلة، ولكن في حدود مهن يقرّرها الرجل». ص42. والانشطارات التي يعيشها الأنا تولّد جملة من المشكلات، حيث تتنوّع ردود الأفعال، ويغيب التوقّع حول ما سيقوم به الأنا، الذي يُدفع نحو الخوف من الآخر، لأنّه سيجهل ردود فعله..
يتحدّث الكاتب في الفصل الثاني: «الأنا في الأسر»، عن الحالات التي ينأسر فيها الأنا، فيتولّد عن ذلك سلكه سبلاً لا تقرّها القيم الاجتماعيّة، «الأنا في العالم أسير هذا العالم، ولا ينشأ وعيه بالحرّيّة إلاّ بوصفه وعياً بالأسر. الأنا أسير في هذا العالم. أسير البنية، أسير الكهف، أسير المقابر، أسير الأصنام. إذاً هو أسير كلّ ما خارج أناه». ص47. يكون الصنم الأكبر الذي يستبدّ بالإنسان في هذا العالم، المال، حيث الأنا يفقد حرّيّته في علاقته مع المال. الأنا يغدو سلعة، يرتهن للسلع التي ينتجها. ويقول الدكتور برقاوي إنّه ليس لديه أمل في تحرير البشريّة من هذا الصنم. الذي هو الصنم الأكبر. ليكون الصنم الآخر السلطة السياسيّة. ويسهب في الحديث عن صفات المتصنّمين، وعن التعصّب الذي يعمّ هذا العالم، في مختلف جهاته.
وفي الفصل الثالث: «نفي الآخر»، يؤكّد المؤلّف أنّ نفي الآخر لا يتوقّف على قتله جسديّاً، لأنّ القتل شكل من أشكال النفي الكثيرة، ثمّ يكون الكذب نفي للآخر وأسر له في الوقت نفسه، وكلّ أسر هو نفي وتقييد للآخر، ثمّ تكون إيديولوجيا القتل التي لا يبالي فيها الأنا بالآخر، بل تراه يبرّر الجرائم التي يقترفها، يقنّعها بأيديولوجيا تكون تغييباً للآخر وإرهاباً له.. يقول عن إيديولوجيا القتل بأنّها «هي أيديولوجيا الأقوياء ضدّ الضعفاء. أو هي أيديولوجيا القوّة العمياء، أيديولوجيا الطغاة والغزاة». ص96. إذ أنّ أيديولوجيا القتل تودي بالجميع، القاتل والقتيل في ساحات الحروب مدفوعان بقوّتها. يقول الكاتب إنّ «غورو ويوسف العظمة رمزان ساطعان: الأوّل رمز لأيديولوجيا القتل، والثاني رمز لفلسفة المقاومة». ص100.
أمّا في الفصل الرابع: «الوجود المأساويّ»، يعرّف الكاتب هذا الوجود بأنّه حالة شعوريّة واعية لا ينجو منها أيّ أنا، مع تفاوت في شدّة هذه الحالة أو ضعفها. ليكون الوجود الإنسانيّ وجوداً مأساويّاً، ويبدأ بالتفصيل على بواعث هذا الوجود، ويفصّل في تحليل المفاهيم والأنماط الموجودة، حيث الموت، والإحباط الوجوديّ للإنسان، الحنين، الوجود المغترب، اغتراب المرأة، اغتراب اللاجئ، الوجود الهزلي، الأنا المعزول، ثمّ يتحدّث عن المثقّف الوطواط، والمثقّف المعتدي، ذاك الذي يكون مهزوماً من الداخل، يعتدي على إنجازات غيره بالنقد والتحامل، كي يجد لنفسه مكاناً، وهو في الحقيقة متوسّط الذكاء، ليس له نصيب من الإبداع. وهنا يعرّف الكاتب النقد على أنّه «معرفة أو جهد يسعى لتقديم معرفة، هذا حال نقد الواقع، أملاً في واقع أفضل، ونقد المعرفة امتحاناً لمعرفة مسبقة أملاً في معرفة أرقى، ونقد السلوك تبشيراً بسلوك أسمى، ونقد الأخلاق دفاعاً عن أخلاق أعلى... وهكذا». ص162.
في الفصل الأخير: «وعي الوعي»، يحضر إثراء لبعض المفاهيم المتداولة، ومن عناوين الفصل: «التفكير وفق «مبدأ» البداية والنهاية، خطر النسبيّة المطلقة، العلم وتناقضاته، موت الإنسان، في الوعي الطوباويّ، الأنا الحرّ». حيث يجادل المؤلّف بديهيّات اندرجت وسادت، لا ينساق وراء الشائع، ينطلق من وعي الأنا بالعالم، معتمداً العلم والمعرفة، مستفيداً من التاريخ، معتبراً من الأخطاء التي وقع فيها كثير من المفكّرين والفلاسفة، «غارودي، كوبرنيك، فرويد، داروين، شتراوس...». حيث الإنسان «الأنا» معه مسؤول عن أعماله، يستمتع بمسؤوليّته، لا محروماً من تلك المسؤوليّة..
لا يكون المفكّر برقاوي بصدد إعادة تسمية أو تقسيم لما وضعه فرويد «الأنا، الأنا الأعلى، الهو». إذ تنتقل الأنا من مفهوم غائم عائم إلى معمّم عبر الاستجلاء الذي يعتمده، حيث يمارس عملية ترقية للأنا، من ضمير مفرد منفصل، إلى وعي منفصل، إلى الضمير الجمعيّ المتّصل، لأنّ «الأنا» لا تنعزل عن واقعها وتاريخها وثقافتها. كما يذكّر المفكّر برقاوي عبر أسلوب عرضه بالمفكّرين والفلاسفة والشعراء الذين ربطوا الجانب الفكريّ الفلسفيّ بالشعريّ، حيث ترد الأفكار في صياغة أدبيّة شاعريّة، فيها من أنفاس جبران خليل جبران، ولاسيّما في ملحق شذرات، حيث يبدو التلاقي معه في الطريقة مع الاختلاف والخصوصيّة في المعالجة. كما أنّه يذكّر بطريقة ديريدا في التفكيك، سواء تفكيك المصطلحات والمفاهيم، أو الكلمات التي يمنحها أبعاداً جديدة.. أي الكتاب غنيّ بالأساليب كما هو غنيّ بالمضامين..
كتاب «الأنا» للدكتور أحمد برقاوي، كتابه هو، فلسفته هو، نظراته وشذراته هو، «أناه» الواعية لا غيره، الشاعر فيه مُلهم الفيلسوف، رواية «الكلّ»، انتصار لإنسانيّة الإنسان في عالم يحاول الإيداء بكلّ خصوصيّاته، تمسّك بهويّة «الأنا» في مواجهة استلاب لا يهدأ تتعرّض له.