|
قلق الصفحة البيضاء ملحق ثقافي
كان محور تلك المقاربات ظاهرة اختفاء القلم كوسيلة مباشرة للتعبير والكتابة. وفي الحقيقة رصدت كتابات بعض النقاد تحولات كبيرة في أسلوب عمل الكتاب فيما يتعلق بالوسائل التقنية التي يستخدمونها للكتابة بداية من القلم مروراً بالآلة الكاتبة وانتهاء بالكمبيوتر وتطبيقاته المتطورة بتسارع. لقد غيرت الآلة الكاتبة بعض جوانب علاقة الأديب بنصه، لكنها احتفظت بشيء جوهري تشترك فيه مع القلم و هو مفهوم الصفحة البيضاء. تحدث ملارميه عن ذلك القلق و التوتر الذي يواجه فيهما الكاتب صفحة بييضاء و عن الإحساس بالمغامرة في محاولة ملء تلك الصفحة. و يذكر الناقد الأمريكي جون أكاسيلا في مقالة نشرت العام الماضي في مجلة نيويوركر الأمريكية أن الآلة الكاتبة حافظت على هذا القلق من خلال آليتها التي تفرض دائماً تزويدها بصفحات بيضاء جديدة. و لعل هذه الصرامة في تغيير الصفحات و مواجهة القلق المتجدد مع كل صفحة جديدة و ذلك الضجيج الناتج عن ضغط الحروف و ارتطامها بسطح الورق جعل من هذه الآلة بالنسبة للعديد من الكتاب رمزاً لعملية المعاناة و القلق و التوتر التي يخوضها الكاتب في عملية تسجيل أفكاره و إخراجها إلى الحياة. و هنا تحديداً تكمن أحد الفوارق الجوهرية بين آلية الكتابة الإبداعية على الآلة الكاتبة و بين آلية الكتابة على الكمبيوتر. مع الكمبيوتر حلت الشاشة محل الصفحة البيضاء و اختفت بالتالي تلك المعاناة و ذلك القلق الغامض الذي يحس به الكاتب تجاه الصفحة البيضاء. إن الشاشة حسب الناقد أكاسيلا نوع من فضاء غير محدد الأبعاد و غير ثابت العناصر، فهو، بعكس الصفحة الورقية، فضاء دائم التغير، قابل للمحو و إعادة الصياغة و التكوين. و بسبب قابلية المحو و التغيير الكبيرة هذه، فإن الكومبيوتر يخفي تلك التغييرات و التحولات التي خضع لها النص قبل وصوله إلى صيغته النهائية و هو بالتالي يخفي الدلائل المادية لمعاناة الكاتب و صراعه مع اللغة و الكلمات. و لعل أي دارس يستخدم لغة دريدا أو بودريار سيصل إلى فكرة مفادها أن الكومبيوتر يضعنا في عالم تتسم فيه الحدود بين الحقيقة و الوهم بالهشاشة، و لا يكون فيه الوهم مصدراً للشك و التأمل. هناك مثال آخر يوضح لنا مدى تأثير تقنيات الكومبيوتر على عمل الأديب. خذ مثلاً إمكانية النسخ و القص و اللصق التي تتم بمنتهى السهولة باستخدام الكومبيوتر. إن هذه التقنية تتيح إمكانات غير محدودة للكاتب في تغيير نصه و تعديل تسلسل المقاطع و الفقرات. بالطبع كانت هذه الإمكانية متاحة مع الوسائل التقليدية كالقلم و الآلة الكاتبة، و لكن صعوبة ذلك مع ما يعنيه من استخدام للمقص و شرائط اللصق و غيرها من تعقيدات التغيير جعل الكاتب يفكر عدة مرات قبل الإقدام على أي تغيير أو تعديل لتسلسل المقاطع و الفقرات. أما في الكتابة الأدبية المعاصرة فإن الإمكانيات المدهشة و غير المحدودة في التعامل مع النصوص جعلت النص بالنسبة للكاتب كينونة في منتهى المرونة. لقد أصبح الكاتب يملك حرية غير مسبوقة في إجراء تعديلات على بنية النص. و بسبب هذه الإمكانيات أصبح الكاتب يكتب النص في بنية وحدات متحركة. ويورد جون أكاسيلا في مقالته مثالاً معاصراً عن تأثير التقنية الحديثة في الكتابة الإبداعية، ففي رواية كيران ديساي “وراثة الفقدان” التي حازت على جائزة بوكر العام الماضي تتجلى إمكانية تحريك وحدات النص في أن الرواية تضع مقطعاً فارغاً في الصفحة للدلالة على حضور تيار من التفكير و التأمل يقطع السرد الروائي كل عدة صفحات. أما عالم الجمال أمبرتو إيكو فقد فاجأ الجميع بانضمامه إلى النقاد المهتمين بما أصبح يعرف بنهاية عصر القلم. في مقالة نشرها مؤخراً في صحيفة الغارديان اللندنية يتناول إيكو هذا الموضوع من وجهة نظر جديدة، فهو يرى أن فقدان العلاقة بين الناس عموماً وبين القلم بسبب سيطرة تطبيقات الكمبيوتر يؤدي إلى نتائج تتجاوز في خطورتها وشمولها بنية النص الأدبي. فزوال القلم من حياتنا حسب إيكو سينتج ثقافة سطحية سريعة خالية من التأمل والتفكير العميق. ويرصد إيكو بعض الإحصائيات حول عادات الكتابة لدى الأطفال والشباب ويستنتج أن هناك نوعاً من أمية جديدة تنتشر في العالم المتقدم حيث تنعدم العلاقة الحميمة بين الكلمة والبشر. لقد أصبح معظم الأطفال والشباب يعتمدون على لوحات المفاتيح لكتابة كل شيء دون أدنى اهتمام بالأخطاء الإملائية واللغوية بسبب الاعتماد على المدقق الإملائي الموجود في معظم برامج الكتابة والتحرير. ولا ينسى أمبرتو إيكو الإشارة إلى البعد الجمالي لزوال القلم. إن الكتابة بالقلم بالنسبة لإيكو ممارسة فردية تنزع نحو التعبير باليد عن خصائص شخصية. إن فردانية وخصوصية الكتابة بالقلم تزول مع استخدام وسائل الكتابة التكنولوجية. ويحذر إيكو أيضاً من زوال قيمة الجميل من الكتابة والخط لأن بالقلم وحده نمتلك الدافع والإمكانية لخط كلماتنا بشكل جميل، أو على الأقل بإحساس أو برغبة أن يكون ما نخطه جميلاً . *عن مجلة نيويوركر الأمريكية وصحيفة الغارديان البريطانية.
|