وقف بالقرب من سريرها ولفَّ جسدها بثوب أبيض حريري، تحسست وجهه بأصابعها المرتجفة بعد انتظار طويل وهمست في تعب :
لقد تأخرت كثيراً، وخشيت أن أرحل وحدي وظننت أنك قد لا تأتي أبدا، منذ زمن بعيد وأنا أحزم أمتعتي وأتحضر لمجيئك، فما من أحد أبقى لأجله.
مسح على جبينها برفق وقال :
ـ أنا وعد لا يُخلف، أوليس لكل شيء أوان.
شع َّ نور من الأعلى بهر بصرها وتسرب إلى جسدها الهشيم دفءٌ ناعم ٌ سلب منه شيئاً عالقاً يلزمها للرحيل، وترك شيئاً بارداً لابد أن يزول.
الولادة
اشتد صراخ الطفل دفعة واحدة حالما تسلل البرد إلى جسده الطري، بعد أن انتزعته يد ٌ خشنة من عالمه الصامت، وقطعت عليه الطريق الوحيدة لعودته، وتصاعد صراخه حدة عندما زحلقته هذه اليد في وعاء شبه مسطح وضيق.
رمقته أمه المتعرقة بنظرة ٍ ساخرة وقالت :
ـ ولدي يعرف إلام َ أتى... هو يدرك ما ينتظره .
علــَّقت صاحبة اليد :
ـ سيكون طفلاً ذكياً، وسيعلم أنه اختصر فعل ما أراده من حياته لحظة ولادته.
فجأة ً... توقف الطفل عن الصراخ ومن ثم َّ استسلم للنوم مبتسماً.
الحنين
كانت متيمة ً بالسباحة ومولعة ً بالبحر، ولكنها إثر حادثة قديمة أورثتها صدمة مروعة مازالت تلازمها حتى الآن، فقدت هذه الرغبة العارمة في مصارعة أمواجه كما كانت تفعل في الماضي.
ومضت سنون بعد ذلك إلى أن طلب منها صديق مرافقته في رحلة بحرية على متن قارب صغير، وبعد إلحاح دام أيام قبلت بذلك، وابتعدا عن الشاطئ مسافة بعيدة حتى تلاشى شعورها بالخوف،
وبدأت تستمتع بجمال الشمس لحظة غروبها، وعندما ابتلعتها أمواج البحر كاملة، طلبت من صديقها أن يعودا.
لكن الحنين لبسها قبل وصولهما بدقائق، ورمت بنفسها إلى البحر فجأة، راحت تسابق القارب الذي سبقها، ووقف الصديق ينتظر إلا أن البحر غاص في ظلمة الليل وما وصلت بعد.